انكسار الردع.. كيف هزم اليمن التفوق الأمريكي
ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
30 ديسمبر 2025مـ – 10 رجب 1447هـ
تحوّل فشل الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي في مواجهة اليمن إلى حقيقة صلبة تعترف بها مراكز أبحاثهم، ووسائل إعلامهم، وقياداتهم العسكرية نفسها، فبعد أكثر من عامين من المواجهة المفتوحة في البحر الأحمر، والضربات الجوية، والحشود البحرية غير المسبوقة، تقف واشنطن و”تل أبيب” أمام خصم غير تقليدي فرض معادلات جديدة، وكشف هشاشة القوة الغربية حين تواجه إرادة صلبة وعقيدة قتال غير متماثلة.
في العقود الماضية كان اليمن في الحسابات الأمريكية والصهيونية عبارة عن هامش جغرافي بعيد، يمكن احتواؤه بالغارات، أو إخضاعه بالحصار، أو إنهاكه بالحروب المركّبة، هكذا تصوّرت غرف التخطيط في واشنطن و”تل أبيب”، وهكذا بُنيت استراتيجيات “الردع بالقصف” و“استعراض القوة”، لكن ما جرى لاحقاً ثبت أنه إخفاق تكتيكي وانكسار مفاهيمي، فاليمن الذي حوصر لعقد كامل بات لاعباً مركزياً أعاد تعريف معنى القوة، وفرض نفسه رقما صعبا في معادلات الأمن الإقليمي والدولي.
السماء التي لم تعد مفتوحة
السيطرة الجوية طالما شكلت حجر الزاوية في العقيدة العسكرية الأمريكية، فمن فيتنام إلى العراق، ومن أفغانستان إلى ليبيا، كانت الأجواء تحت سيطرة الأمريكان، وتكسر بذلك إرادة الخصم قبل أن يشتبك، لكن اليمن قَلَبَ هذه القاعدة رأساً على عقب، فحين يقرّ طيار اختبار لطائرة B-52، العقيد المتقاعد مارك جونزينجر، عبر موقع Task & Purpose، بأن العمليات في اليمن كشفت عن نظام دفاع جوي أكثر تقدماً من المتوقع، فإننا أمام اعتراف بانهيار افتراضات كاملة.
الطيارون الأمريكيون باتوا يناورون حيث لم يكونوا يناورون، ويتفادون حيث كانوا يهاجمون، ويحسبون المخاطر حيث كانوا يفرضونها، فلم تعد الطائرات غير الشبحية أدوات سيطرة، بل أهدافاً محتملة واضطرت واشنطن إلى استخدام قاذفات B-2 الشبحية، في اعتراف صريح بأن المجال الجوي اليمني لم يعد مستباحاً.
عبء البحر الأحمر
في البحر الأحمر -حيث أرادت واشنطن أن تستعرض قوتها البحرية- كشفت وقائع الميدان أن القوة الضخمة حين تستدرج إلى ساحة غير متكافئة تتحول إلى عبء ثقيل، فاعترافات صحيفة “غلوبس” الصهيونية على لسان أدميرال أمريكي سابق بأن التحالف الأمريكي فشل في التعامل مع العمليات البحرية اليمنية كانت ضمن سرد طويل من الإقرار بالعجز.
تضمنت الاعترافات الأمريكية أن اليمنيين نفّذوا عمليات بحرية معقّدة، واستخدموا وسائل بسيطة ومنخفضة الكلفة، وأجبروا أساطيل متطورة على البقاء في وضعية دفاع دائم. أما حاملات الطائرات (رمز الهيمنة الأمريكية) لم تعد رأس حربة هجومية، بل منصات محاصَرة، تُنفق مليارات الدولارات لاعتراض مسيّرات لا تتجاوز قيمتها آلاف الدولارات.
الكلفة لم تكن مالية ونفسية وعملياتية، فالطواقم مرهقة، وغرف القيادات مرتبكة، عزز ارتباكَها أخطاء قاتلة “بنيران صديقة”، وفقدان الثقة بالمنظومات حتى بات البحر الأحمر بعيدا عن الصورة النمطية بأنه مجرد ممر ملاحي، وإنما تحوّل إلى مسرح استنزاف طويل كشف هشاشة الردع الأمريكي.
في باب المندب، لم يحتج اليمن إلى حاملات طائرات أو قواعد خارجية، يكفي اعتراف Trade Winds بأن “اليمنيين هم أسياد مضيق باب المندب بلا منازع”، فالسيطرة هنا لم تكن عسكرية فقط، بل اقتصادية، نفسية، واستراتيجية، أدت إلى أن شركات الملاحة العالمية غيّرت مساراتها وأعادت حساباتها وانتظرت إشارات التهدئة من صنعاء. وهكذا تحوّل المضيق إلى ورقة ضغط عالمية بيد طرف كان يُصنّف سابقاً “محاصَراً”.
مدرسة اليمن غير المتوقعة
رغم الإنكار الأمريكي بحقائق الانتكاسات التي تعرضوا لها في البحر الأحمر، إلا أن الحقيقة في النهاية وجدت طريقها للظهور، خاصة بعد إيقاف المعركة وبدء ظهور خسائر المعارك، عززها توالي الاعترافات الأمريكية بالفشل حيث كان الاعتراف الأخطر، والأعمق دلالة، والذي جاء من سلاح مشاة البحرية الأمريكية نفسه، فقد كتب ضباط المارينز أن اليمنيين باتوا “أخطر مدرسة قتالية في الحرب البحرية الحديثة”. ما يعني أن النموذج اليمني تفوق على كونه ندا للمارينز ليصبح مدرسة عسكرية.
مجمل الاعترافات الأمريكية أن اليمن “جيش بلا سلاح جو تقليدي”، لا يملك بحرية نظامية وقواعد عسكرية ضخمة، إلا أنه في نهاية المطاف نجح في جرِّ الولايات المتحدة إلى مسرح ثانوي استنزف ترسانتها الدفاعية، وفرض معضلة “الأسلحة المشتركة” وتعطيل حرية الحركة لأكبر أسطول بحري في التاريخ، وهو ما كشف حقيقة أن التجربة اليمنية أثبتت أن القوة لا تقاس بحجم المنصات، وإنما بقدرة استخدامها بذكاء.
دفاعات جوية لا تحمي نفسها
لطالما قدّم الكيان الإسرائيلي نفسه بوصفه صاحب “الدفاعات الجوية التي لا تُخترق”، لكن الطائرات المسيّرة اليمنية أسقطت هذا الادعاء عملياً، فقد نفذ اليمن عشرات العمليات العسكرية في عمق الكيان الصهيوني، ووثق الصهاينة أنفسُهم وصولَ أسلحة اليمن إلى أهدافها بدقة.
خلال الأيام الماضية أكدت مجلة “غراند بيناكل تريبيون” اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية ووقوع إصابات مباشرة في “إيلات” ليسقط معها وهم “القبة المُحكمة”، فالهجوم اليمني مثّل ضربة استراتيجية كشفت أن عمق الكيان لم يعد آمناً، وأن منظوماته المتطورة ليست معصومة أمام أدوات ذكية ومنخفضة الكلفة.
في ذات السياق تحدثت مراكز مثل RANE Worldview وModern Policy عن “قلق” وفشل النموذج الأمني الغربي، فقد ذكرت أن الردع بالقصف لم يوقف العمليات اليمنية، ولم يفرض هيمنة، ولم يحسم الصراع، بل على العكس، دفع واشنطن إلى إعادة تشكيل وجودها العسكري وتقليص طموحاتها والبحث عن مخارج سياسية، مضيفة أن اليمن لم يهزم أمريكا بضربة واحدة، بل أفشلها عبر الزمن، عبر استنزاف طويل جعل التفوق التقليدي عديم الجدوى.
اليمن ومعادلة ما بعد الهيمنة
ما فرضه اليمن انتصار عسكري وتحول في قواعد اللعبة، فقد أثبت أن الاستنزاف يهزم التفوق، وأن الذكاء يهزم الكلفة، والإرادة تهزم التكنولوجيا، فاعترافات الأمريكيين والصهاينة ليست مجرد توثيق للهزيمة، بل إعلان غير مباشر عن نهاية زمن الهيمنة المطلقة. فاليمن ‘الذي أُريد له أن يُكسر- خرج من المعركة مدرسةً عسكرية وعقدةً استراتيجية ورمزاً لقدرة الشعوب على فرض معادلاتها. وفي زمن تتهاوى فيه الأساطير، كتب اليمن فصلاً جديداً من التاريخ،
والخلاصة أن واشنطن فشلت في تأمين الملاحة الصهيونية، وفشلت في كسر الإرادة اليمنية، وفشلت في حماية هيبتها البحرية، وتحالف “حارس الازدهار” انهار عملياً، وحاملات الطائرات تحوّلت من أدوات هجوم إلى منصات دفاع مرهقة.
أكثر من مليار دولار صُرفت لاعتراض مسيّرات لا تتجاوز كلفتها آلاف الدولارات، عزز ذلك إسقاط طائرات MQ-9، وسوبر هورنت، ونيران صديقة، وارتباك غرف القيادة، كلها مؤشرات فشل مكتمل الأركان.
اليمنيون أتقنوا حرب عدم التماثل، والنيران الموزعة، والخداع العملياتي، وإدارة الانبعاثات، والاتصالات، والضرب من منصات متنقلة غير قابلة للتعقب، وهي عناصر أسقطت التفوق التكنولوجي الأمريكي عملياً، وأثبتت أن اليمن هو سيد باب المندب بلا منازع، فشركات الملاحة الكبرى لا تعود إلا بشروط صنعاء، وأي تصعيد في غزة يعيد الحصار البحري فوراً.
ما حدث ليس ضربة حظ، فقد عمل الأعداء ما بوسعهم لاحتواء اليمن، لكن ثبت أن الردع بالقصف فشل، وأن التفوق التقليدي لم يعد حاسماً، وبالتالي فما جرى في البحر الأحمر، وفي الأجواء اليمنية، وعلى شواطئ باب المندب هو أن من ينطلق من مبدأ إيماني ووفق التعليمات الإلهية لا يمكن لأي قوة في هذه الدنيا أن تغلبه.
المصدر: “موقع أنصار الله”
