هندسة القضم والضم: كيف يبتلع كيان العدو الضفة والقدس بموازنات الظل وجرائم الإحلال؟
ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
22 ديسمبر 2025مـ – 2 رجب 1447هـ
تقرير | يحيى الشامي
بإمعانٍ واضح في سياسةِ فرضِ الأمر الواقع، وبوتيرةٍ تتجاوز كل الخطوطِ الحمراء، صادق ما يُسمى المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر على إنشاءِ تسعَ عشرةَ مغتصبة استيطانية جديدة في الضفة الغربية. قرار يأتي ضمن استراتيجية تهدف -بشكل معلن- إلى إنهاء أيّ فرصة لقيام دولة فلسطينية، متصلة باعتماد سياسة التوسع والضم التدريجي، واليوم يصح توصيفه بالقضم بالجملة.
القرارات المعلنة تخفي أرقاماً صادمة؛ فقد كشفت صحيفةُ “هآرتس” الصهيونية عن تخصيصِ “حكومة”ِ العدو الإسرائيلي -سراً- ميزانية تقارب ثمانمئة وخمسين مليونَ دولار، لدعمِ المشروعِ الاستيطاني خلالَ السنواتِ الخمسِ المقبلة.
يتوافق الرقم مع التوسع الممنهج على الأراضي الفلسطينية في بناء أكثر من مئةٍ وأربعين بؤرة استيطانية خلال ثلاث سنوات فقط، تحت إشراف مباشرٍ من ساسة “ووزراء” في “حكومة” العدو، وبحماية كاملة من جيشه الذي باتَ -وفقَ تحقيقات هيئة البثّ الإسرائيلية- يوفر غطاء عسكرياً مباشراً لهذا التوسع.
التصعيدُ الأخيرُ لم يتوقف عند حدودِ الخطط، بل شملَ المصادقةَ على نحوِ سبعمئةِ وحدة استيطانية في محيط القدس وبيت لحم، في خطوة تضعُ ربعَ مليون مغتصب يهودي في القدس، ونحو نصفِ مليونٍ في الضفة، داخلَ منظومةٍ استيطانيةٍ تضربُ عرضَ الحائطِ بالرأي الاستشاري لمحكمة “العدل الدولية” وقراراتِ الأممِ المتحدة وإدانات المجتمع الدولي، رهاناً ربما على الصمت العربي والإسلامي، الذي تتمدد على سعته مشاريعُ المحتل ومخططاته التهجيرية.
يصحُ توصيفها بعملية “إبادة جغرافية” ممنهجة يقودها كيان العدو لإنهاء الوجود الفلسطيني. ما كشفته الأرقام والشهادات مؤخراً يتجاوز فكرة “التوسع الاستيطاني” التقليدية، ليصل إلى مرحلة “الحسم” التي تهدف إلى تحويل الضفة والقدس إلى جزء عضوي من الكيان عبر شبكة معقدة من القوانين العسكرية، والموازنات السرية، وعربدة المغتصبين اليهود تحت حماية جيش العدو.
سيادة “البزة العسكرية”
تروي شهادات الأهالي في بلدة “بيت أولا” غرب الخليل فصلاً من فصول هذا الإرهاب المنظم؛ ففي يوليو الماضي، تجاوز اعتداء أحد المغتصبين اليهود على المزارعين الفلسطينيين حالة الشجار العابر، ليتمادى كتجسيدٍ لوجه العدو الحقيقي المغتصب الذي نصب خيمته على أراضي الأهالي، عاد بعد أيام مرتدياً زيَّ جيش العدو الكامل، ليمارس تنكيلاً وحشياً بحق أحد المزارعين، واضعاً قدمه على عنقه تحت حماية رفاقه من الجنود الصهاينة.
هذا المشهد يفسر عقيدة “الضم بحكم الأمر الواقع”؛ حيث لم يعد هناك فرق بين “المغتصب” و”الجندي”، فجميعهم يمارسون مهام العصابات التي احتلت فلسطين منذ يومها الأول قبل أن تتوارى خلف زي “جيش رسمي” يدّعي حماية القانون، ويوفر الغطاء العسكري للمغتصبين للسيطرة على ما يسمى “أراضي دولة”، وهي كذبة قانونية استحدثها العدو منذ عام 1983 للالتفاف على ملكية الفلسطينيين لأراضيهم التي ورثوها عن أجدادهم.
850 مليون دولار لتمويل جريمة الاستيطان:
قبل أيام كشفت صحيفة “هآرتس” الصهيونية عن “مؤامرة مالية” تديرها “حكومة” العدو؛ حيث تم تخصيص موازنة سرية تقدر بنحو 850 مليون دولار لدعم وتعزيز الوجود الإجرامي للمغتصبين في الضفة الغربية خلال السنوات الخمس المقبلة.
هذه الأموال تذهب لبناء البؤر، ولتمويل البنية التحتية لـ 140 بؤرة استيطانية أقامها قادة المغتصبين وساسة العدو -وعلى رأسهم الصهيوني “سموتريتش”- خلال السنوات الثلاث الأخيرة. آخر هذه الجرائم كان التصديق على 700 وحدة جديدة للمغتصبين اليهود في محيط القدس وبيت لحم، بهدف إتمام حلقة الحصار، وعزل المدن الفلسطينية عن بعضها البعض.
استراتيجية خنق الجغرافيا الفلسطينية
منذ احتلال عام 1967، لم تتوقف سلطات العدو عن استخدام “الطبيعة” و”الأمن” كذرائع للسرقة.
المناطق العسكرية المغلقة: تسيطر سلطات العدو اليوم على نحو 26.6% من مساحة الضفة تحت مسمى “مناطق تدريب عسكري”، وهي في الحقيقة “خزان احتياطي” يتم تفريغه تدريجياً لصالح المغتصبين اليهود. وكانت أعلنت سلطات العدو عن مئات آلاف الدونمات “محميات طبيعية” يحظر على الفلسطيني دخولها أو الرعي فيها، بينما تقام في قلبها مستوطنات وطرق للمغتصبين، كما حدث في جبل “أبو غنيم”.
ويستولى العدو على نحو 1.3 مليون دونم (22% من الضفة) عبر تفسيرات ملتوية للقوانين العثمانية والبريطانية، ليخصص 99.7% منها حصراً للمغتصبين اليهود.
يمثل تعيين الصهيوني “بتسلئيل سموتريتش” “وزيرا”ً في وزارة جيش العدو انتقالاً من “الضم الصامت” إلى “الضم الإداري الكامل”. لقد أنشأ العدو نظاماً مدنياً منفصلاً يدير شؤون المغتصبين بعيداً عن “الإدارة المدنية” العسكرية التقليدية، وعين نائباً مدنياً (مغتصباً يهودياً) يمتلك صلاحيات مطلقة لتوقيع أوامر الهدم بحق الفلسطينيين، وأوامر البناء للمغتصبين.
هذا الانقلاب البيروقراطي أدى إلى طفرة في الهدم؛ فمقابل كل عشرة بيوت تُبنى للمغتصبين، يهدم جيش العدو بيتاً فلسطينياً. وتشير تقارير المنظمة الأممية “أوتشا” إلى تهجير آلاف الفلسطينيين، وتدمير مئات المنشآت شهرياً، في عملية تطهير عرقي ناعمة تهدف لتفريغ “المنطقة جـ”.
القدس الكبرى: تصفية الوجود العربي
في القدس، يطبق العدو نموذجاً فجاً للضم من خلال تعديلات قوانين البلديات ومشاريع “القدس الكبرى”، يسعى العدو لعزل الأحياء الفلسطينية المكتظة خلف الجدار، ودمج الكتل الاستيطانية الكبرى لتغيير الميزان الديمغرافي.
العدو لا يريد الأرض فقط، بل يريد “أرضاً بلا سكان”، حيث يتم التعامل مع المقدسيين كـ “مقيمين دائمين” يمكن سحب هوياتهم في أي لحظة، بينما يتمتع المغتصب اليهودي بكامل الحقوق السيادية.
قطاع الزراعة: حرب على الزيتون والماء
لم يسلم الشجر من إرهاب العدو؛ حيث وضع المغتصبون اليهود أيديهم على أكثر من 93 ألف دونم من الأراضي الزراعية الفلسطينية. وفي “الأغوار”، يمنع المزارعون الفلسطينيون من الوصول إلى أراضيهم بحجة أنها “مناطق تماس”، بينما تُفتح مياه الضفة المنهوبة لري مزارع النخيل التابعة للمغتصبين.
حقيقة “السيادة” المزعومة
ما يجري اليوم في الضفة المحتلة والقدس هو في الواقع تنفيذ لمخطط “الحسم” الذي أعلنه العدو صراحة، من خلال 175 مشروع قانون نوقشت في “كنيست” العدو لـ”تطبيق السيادة”، ومن خلال تحويل الضفة إلى “إدارة مدنية إسرائيلية”. يضع الكيان الجميع -بمن فيهم العرب والمسلمون- أمام حقيقة واحدة: الضفة الغربية بالنسبة للعدو هي “ساحة حرب إحلالية”. وما نراه من طرق التفافية، وبوابات حديدية تخنق الأهالي، وميزانيات سرية، ليس إلا اللمسات الأخيرة في مشروع وأد أي دولة فلسطينية مستقلة، وتحويل الفلسطينيين إلى غرباء في أرض أجدادهم. يجري هذا وأكثر على مسمع ومرأى من أكثر من ملياري مسلم، لعل.. بل نؤكد أن صمتهم اليوم يمثل أعظم دوافع العدو التي تتغذى منها آلة إجرامه وأدوات توسعه وتمدده.
