الخبر وما وراء الخبر

كيف أعادت معركة البحر الأحمر كتابة نظرية القوة البحرية؟

1

ذمــار نـيـوز || متابعات ||

23 نوفمبر 2025مـ –2 جماد الثاني 1447هـ

مثّلت المواجهات البحرية بين القوات المسلحة اليمنية وتحالف ما سمي بـ “الازدهار” بقيادة أمريكية ومشاركة عدد من الدول الأوروبية والعربية وأسلحتها البحرية وأساطيلها وحاملات طائراتها (مثل “يو إس.إس. هاري ترومان” و “يو إس.إس. أبراهام لينكولن” و”روزفلت” إضافة إلى أيزنهاور)، منعطفاً تاريخياً، أعلنت فيه عن نشأة قوة إقليمية صاعدة.

وكشفت هذه المعركة، التي ارتبطت استراتيجياً بالدفاع عن غزة، عن دحر النفوذ الأمريكي في البحر الأحمر وتحييده، وساهمت في تشجيع وتيرة تحول المنظومة القطبية العالمية، ودفعت واشنطن بما يقرب من نصف أسطولها الحربي إلى المنطقة، لكن النتيجة آلت إلى “هزيمة استراتيجية” وخيبة أمل، عجزت ما تسمى بـ “القوة العظمى” عن شل قدرات اليمن الجديد أو ضمان سلامة ملاحة كيان العدو الصهيوني.

ويعد هروب هذه الأساطيل، بما فيها حاملات الطائرات العملاقة، أمام العمليات اليمنية الدقيقة، وفشل منظومات الدفاع الجوي التي على متنها وسلاح الجو التابع لها، والاعتراف الأمريكي بسقوط مقاتلات “إف 18” من مدارجها، أدى ذلك إلى تراجع سمعة الردع واستنزاف هائل في الكلفة–الفعالية، وأصبحت الحاملات مُهددة بصواريخ ومسيّرات زهيدة الثمن، تبحث لها عن مأوى في أعماق المحيطات وعرض شواطئ الدول المجاورة.

وهذا الإخفاق أجبر الرئيس الأمريكي ترامب على التراجع لخطوات وإعلان وقف العدوان الأمريكي على اليمن والدخول في مفاوضات مع صنعاء بوساطة عمانية في مايو 2025، وهو ما يمثل “إقراراً ضمنياً بالفشل” بعد إنفاق مليارات الدولارات دون جدوى، واضطرت أمريكا إلى ترك الكيان الصهيوني لمواجهة اليمن دون حماية معهود، ليجد الكيان نفسه وحيداً أمام العمليات اليمنية الاستراتيجية، والحصار البحري والجوي على الموانئ والمطارات الفلسطينية المحتلة.

وأثبت اليمن أن القوة تكمن في العزيمة والإبداع التكتيكي، لا في ضخامة الأساطيل، حيث اعتمد على المُسيَّرات والصواريخ منخفضة الكلفة، مما أجبر البحرية الأمريكية على التعلم من خصومها وتغيير عقيدتها القتالية، ونضرية المعركة البحرية حسب ما شدد عليه البنتاجون الأمريكي.

وأدى سحب هذا الحجم من الأسطول الأمريكي إلى البحر الأحمر إلى تصدع الهيمنة الشاملة، وخلق فراغات في مسارح عمليات أخرى، مؤكداً أن واشنطن غير قادرة على إدارة معارك بحرية متعددة في وقت واحد، لتتجاوز القوات المسلحة اليمنية نطاقها المحلي لتصبح طرفاً إقليمياً ودولياً محورياً فرض معادلة جديدة، وسبقت الصين وروسيا بخطوات بحرية، وإن إعلان أمريكا عن إنهاء عدوانها لا يمكن تفسيره إلا بأنه “إذعان بهزيمة بحرية استراتيجية”، وتأكيد على أن القوة التي كان يُنظر إليها على أنها لا تُقهر، اصطدمت اليوم بعزيمة شعب وجيش وقيادة ومشروع قرر مجتمعاً أن يكون نصر غزة نصراً للمستضعفين واستحقاقاً موعوداً له مفر منه، مُرَسّخاً بذلك قواعد إيمانية ودينية وعسكرية جديدة للصراع في المنطقة.

إعادة تعريف معايير القوة

في هذا السياق، يؤكد الخبير العسكري الاستراتيجي العقيد مجيب شمسان أن ما جرى في البحر الأحمر له نتائجه وتداعياته على مسرح المواجهة، وامتد إلى ميدان الفشل للأمريكي بشكل عام كقوة بحرية، وارتدادات أعمق على المستوى النظري فيما يتعلق بالبعد الجيوبوليتيكي. ويشير شمسان في حديثه لقناة المسيرة عبر برنامج “ملفات المسائي” إلى أن فشل واشنطن طيلة عامين في مواجهة القوات المسلحة اليمنية، التي لم يكن ينظر إليها بأنها تمتلك قدرة تُقارن بالقوة الأمريكية، كشف حجم الغطرسة الأمريكية التي اعتمدت على إرسال حاملات الطائرات لفك الحصار عن الكيان الصهيوني، وما صدم الأمريكي هو تعامل اليمن مع تلك الأساطيل باعتبارها معركة ثانوية، وأن معركتها الأساسية كانت هي إسناد غزة، ومنع السفن من الوصول إلى موانئ فلسطين المحتلة.

ويضيف شمسان: “هذا الفشل دفع إلى مستوى الهزيمة الإدراكية، وفرض إعادة النظر في النظرية الجيوبوليتيكية التي أقيمت عليها القوة البحرية الأمريكية منذ ماهان وماكيندر، مؤكداً أن عجز واشنطن عن حماية سفن الكيان الصهيوني أو حتى حماية سفنها الحربية في أهم منطقة استراتيجية سيترك أثره العميق على منافسيها الدوليين، وستمتد تداعيات المعركة شرقاً وشمالاً وغرباً، لما تمثله من تغيير شامل في قواعد الاشتباك البحري العالمي.

من جانبه، يؤكد الخبير العسكري والاستراتيجي العقيد أكرم كمال السيروي أن اليمن قلب المعادلات العسكرية رأساً على عقب، وفرض واقعاً جديداً أربك الولايات المتحدة وحلفاءها، موضحاً أن المعركة لم تكن معركة بحرية تقليدية (فرقاطات مقابل فرقاطات)، بل كانت مواجهة بين الأساطيل الضخمة من جهة، وبين الصواريخ اليمنية والمسيرات اليمنية من جهة أخرى.

ويشير في حديثه لقناة المسيرة إلى أن هذا الواقع الجديد أحدث تغييراً جذرياً داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية، حيث يعمل البنتاغون اليوم على البحث المحموم عن طرق لحماية بحريته من سلاح المسيرات والصواريخ، وبات مجبراً على التحول نحو الاستثمار الكبير في الصناعات الصاروخية، متأثراً بما أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول انعكاس موازين التطور العسكري لصالح روسيا في مجال الصواريخ.

 

 

ويشدد السيروي على أن ما جرى في البحر الأحمر أجبر البنتاغون على إعادة كتابة نظريات الحرب البحرية.

تحول استراتيجي يرسم عصر ما بعد الهيمنة المطلقة

تؤكد هذه المعطيات والشواهد القريبة وما أدركه الخبراء العسكريون والمحللون أن المواجهة في البحر الأحمر تمثل نقطة تحوّل محورية وتُرَسِّخ مرحلة جديدة في النظام الجيوبوليتيكي العالمي، حيث باتت اعترافات الفشل تأتي على لسان القيادة الأمريكية العليا.

وإن إجبار الرئيس الأمريكي المعتوه ترامب على وقف العدوان على اليمن والدخول في مفاوضات بوساطة عمانية يمثل إقراراً سياسياً مباشراً بعجز القوة العسكرية، يترافق مع اعترافات من القيادات البحرية الأمريكية، وعلى رأسها الأدميرال براد كوبر، قائد القوات البحرية الأمريكية في المنطقة، الذي أكد أن واشنطن تخوض “أكبر معركة بحرية لها منذ الحرب العالمية الثانية”.

وهذا التطور يُثبت فشل نظرية القوة المطلقة، ويُرسخ اضمحلال العقيدة البحرية الأمريكية وضرورة إعادة كتابة نظريات الحرب البحرية بالكامل، مع التركيز على مواجهة “الحرب غير المتماثلة”، ما يثبت تجاسر الإرادة اليمنية ونجاح القوات المسلحة اليمنية في تجاوز حدودها الجغرافية لفرض نفسها كطرف محوري قادر على محاصرة أي قوة تعاديها في المنطقة والعالم، وحرمانها من الملاحة عبر أهم ممر ملاحي دولي، مما يُعزز من نفوذ صنعاء ويُفعل مبدأ الردع المتبادل. وهذا التصدع في الردع العالمي يسرّع من تآكل نظام القطب الأوحد، ويُنبئ بعصر تكون فيه القوة العسكرية أقل ارتباطاً بحجم الأساطيل وأكثر ارتباطاً بالإرادة والابتكار التكتيكي.

وبعد الإذعان بالفشل الأمريكي، من المتوقع أن تلجأ واشنطن إلى الحرب بالوكالة، واستخدام أدوات الضغط الاقتصادي والدعائي، وإجبار الأذرع العربية والعملاء في الداخل، لمحاولة الالتفاف على فشلها الميداني، والتعويض، بينما يبقى موقف اليمن ثابتاً، ونجح في ربط أي تهدئة شاملة بوقف العدوان على غزة، ويمكن له الثبات بوتيرة عالية وأكثر زخماً وتعاطفاً في الداخل والمحيط العربي والإسلامي، أمام أي تصعيد يستهدفه في المستقبل، وهذا ما يعكسه التردد السعودي أمام اليمن، منذ بدأ معركة طوفان الأقصى.

وبهذا المعنى، فإن معركة البحر الأحمر حدت وبشكل كبير من هيمنة الأساطيل وحملات الطائرات الأمريكية وغيرها في المنطقة، وبقية البحار والمحيطات المستباحة أمريكياً، وفتحت الباب أمام إعادة تعريف جذرية لمفهوم القوة العالمية، لتُثبت أن الإرادة القوية والابتكار التكتيكي قادران على تحطيم أسطورة التفوق التكنولوجي الباهظ التكلفة، مقدمة للعالم دروساً جديدة في كيفية مواجهة التفوق الأمريكي البحري الذي ظل جاثياً على صدور العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم.