الخبر وما وراء الخبر

ناصر قنديل للمسيرة: “طوفان الأقصى” قلبت الموازين وكشفت فشل “الجيش الذي لا يقهر”

2

 

أكّد المحلل والباحث الاستراتيجي “ناصر قنديل”، رئيس تحرير صحيفة “البناء” اللبنانية، أنَّ معركة “طوفان الأقصى”، هي “المعركة الوجودية التي قلبت الموازين، وكشفت فشل “الجيش الذي لا يقهر”، مشدّدًا على أنَّ قيمتها “من الضربة الأولى، التي أسقطت صورة هذا الجيش الجبار، بنظر حلفائه، وشعوب المنطقة، مستوطنيه”.

وفي تحليلٍ استراتيجي عميق استعرض “قنديل”، في حوارٍ خاص لقناة “المسيرة”، اليوم الاثنين، تفاصيل المقاربات الإستراتيجية لمعركة “طوفان الأقصى” ومساراتها بعد مرور عامين على انطلاقها في السابع من أكتوبر 2023م، مركّزًا على النتائج العميقة للمعركة والحرب التي تلتها، وقدّم قراءة استراتيجية للتوازنات الجديدة التي فرضتها.

 

المحور الأول: إعادة تعريف منطق الصراع وهويته

أكّد قنديل في مستهل حديثه على استحالة قراءة المشهد بمعزلٍ عن فهم الطبيعة الوجودية للصراع، رافضًا “السردية المشوهة” التي تصور المعركة كمباراةٍ رياضية تُحسب بنتائجها الرقمية المباشرة.

ووفقًا لتحليله؛ فإنَّ منطق الصراع التاريخي بين المقاومة وكيان الاحتلال الصهيوني يقوم على معادلة: أنَّ “الكيان لا يمكن أنَّ يربح إلا بتحقيق نصر مطلق”، وأنَّ “المقاومة لا يمكن أنَّ تُهزم إلا بهزيمة مطلقة”.

وبناءً على هذه القاعدة التي طرحها قنديل؛ فإنَّ عجز الكيان عن تحقيق نصر مطلق، وصمود المقاومة وتجنبها للهزيمة المطلقة، يعني بحد ذاته “انتصارًا استراتيجيًا للمقاومة وهزيمة للكيان”.

 

المحور الثاني: النتائج الاستراتيجية المباشرة لعملية “طوفان الأقصى”

أوضح قنديل أنَّ معركة السابع من أكتوبر، بحد ذاتها، وجهت ضربة قاضية لصورة الكيان في ثلاث نقاط مقتل رئيسية:

أولاً:تحطيم صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، حيث أسقطت العملية من الضربة الأولى الصورة الأسطورية لجيش الاحتلال الإسرائيلي.

ووفقًا لقنديل؛ فقد تجلى هذا الفشل في عدة مستويات، منها الفشل الاستخباري، إذ عجز الكيان عن كشف عملية استغرقت استعدادات سرية طويلة رغم تفوقه التقني والعلمي.

إضافةً إلى فشل عسكري ميداني؛ إذ تمكّن 1200 مقاتل من التغلب على “فرقة غزة”، التي تُعد من أهم فرق النخبة والمجهزة بأعلى التقنيات، وتضم عشرة آلاف جندي، والسيطرة على غلاف غزة في غضون أربع ساعات فقط.

ثانيًّا:اهتزاز الثقة على مستوى الحلفاء والمغتصبين الصهاينة؛ فالنسبة للغرب، ظهر العدوّ ككيانٍ لا يمكن الاعتماد عليه كـ “عصا غليظة” في المنطقة؛ مما أثار تساؤلات حول جهوزيته وأهليته، وقدوم قادة الغرب للمنطقة كان دليلاً على شعورهم بأنَّ الكيان في خطر وجودي.

أمّا بالنسبة للمستوطنين الصهاينة؛ فرأى قنديل، “تحوّل الشك في قدرة جيش الاحتلال على توفير الحماية إلى رأي عام سائد”، وقد ثبت أنَّ اختراق الجغرافيا ممكن وبعمق؛ مما فتح الباب أمام “مخاوف من عمليات مستقبلية أوسع نطاقًا” ومن جبهات متعددة.

المحور الثالث: تحليل مسار الحرب الممتدة لعامين

وبشكلٍ لافت امتد تحليل ناصر قنديل، ليشمل الحرب العدوانية الصهيونية التي تلت المعركة، والتي استمرت لعامين، ولاتزال، وكشفت عن حقائق استراتيجية جديدة:

صمود غزة الأسطوري، والتي أثبتت بمساحتها الصغيرة وعدد سكانها الكبير، قدرة على الصمود في وجه آلة حرب مدعومة من الغرب بأكمله ماليًا وعسكريًا، وهو ما يُعد إنجازًا استراتيجيًا بحدّ ذاته.

والحقيقة الأخرى تتمثل بالفشل العسكري الصهيوني؛ إذ بعد عامين من القتال، لم يستطع جيش الاحتلال بكل قدراته (الجوية، البحرية، البرية) أنَّ يلحق الهزيمة بالمقاومة أو يحقق إنجازًا عسكريًا حاسمًا، وخلص قنديل إلى نتيجة مفادها أنَّ الكيان، “يَقتُل، ولكنه فاشل في القتال”.

والحقيقة الثالثة، أنَّ اللجوء للسياسة جاء لتعويض الفشل العسكري، في محاولات تحقيق مكاسب عبر السياسة، مثل “الاحتيال الترامبي” والحشد العربي، وهي دليل على الفشل في تحقيق الأهداف عبر الحرب.

 

المحور الرابع: مقارنة استراتيجية للخسائر بين المقاومة والكيان

قدّم قنديل مقارنة نوعية بين خسائر الطرفين، مشيرًا إلى أنَّ الفارق الجوهري يكمن في قابلية هذه الخسائر للتعويض؛ فمثلاً خسائر المقاومة، فادحة ولكنها قابلة للترميم؛ فهي من الناحية البشرية “تفقد قادة، ولكنها تنجب قادة جدد، ودماء الشهداء تولّد أجيالاً جديدة من المقاومين”.

واستشهد قنديل بتقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال” يفيد بأنَّ عدد مقاتلي حماس أصبح أكثر مما كان عليه عشية الطوفان، وهذا ما سار عليه عسكريًا؛ إذ لا تزال مصانع الأسلحة تعمل في الأنفاق؛ ما يدل على “قدرة المقاومة على تعويض خسائرها المادية”.

وشدّد على أنَّ خسائر الكيان، استراتيجية وغير قابلة للترميم، محدّدًا ثلاث خسائر كبرى لا يمكن للكيان إصلاحها:

الانقلاب في الرأي العام الغربي:وهو التحول الأهم، والذي “أسقط الرواية الصهيونية القائمة على تزوير التاريخ، وباتت الشعوب الغربية تدرك حقيقة فلسطين كأرضٍ محتلة وشعب له حق”، وهذا التحول في الوعي جذري وغير قابل للكسر، حيث أصبح في نظرهم كيانًا “مجرمًا، متوحشًا، وغير قائم على حق”.

فقدان الدور الوظيفي للكيان:إذ تحول كيان العدوّ الإسرائيلي في نظر الحكومات الغربية من “رصيد وقيمة مضافة” -قاعدة عسكرية متقدمة- إلى “عبء” سياسي وأخلاقي وعسكري، يتم دعمه فقط لتجنب إظهار الضعف.

عودة السؤال الوجودي:لقد أعادت المعركة طرح “المسألة الوجودية” إلى صدارة المشهد داخل الكيان، وأحيت من جديد “عقدة الثمانين” والشعور بأنَّ “وجوده مؤقت”؛ فبعد أنَّ كان قادة الكيان يظنون أنّهم تجاوزا هذا الهاجس وباتوا يتحدثون عن التطبيع والاندماج، عادت الهواجس الوجودية لتصبح الشغل الشاغل.

ويخلص تحليل قنديل في هذا المحور إلى أنَّ معركة “طوفان الأقصى” والحرب التي تلتها على مدار عامين، شكّلت نقطة تحول تاريخية، وألحقت بالكيان الإسرائيلي خسائر استراتيجية في صورته، ودوره الوظيفي، وتماسكه الداخلي، وهي خسائر غير قابلة للترميم.

في المقابل، ورغم الخسائر الفادحة، أثبتت المقاومة قدرة فريدة على الصمود والتجدد والترميم؛ ما يضعها في موقع المنتصر استراتيجيًا في هذه المعركة الوجودية الممتدة.

المحور الخامس: معركة حوّلت غزة إلى أكاديمية عسكرية تُدرس العالم فنون الحرب غير المتكافئة

يُبرز قنديل في تحليله التفوق النوعي الذي أظهرته المقاومة في التخطيط العسكري والوعي السياسي والبراعة التكتيكية، ويقارنه بالجمود الاستراتيجي الذي يعاني منه جيش الاحتلال؛ فمن جهة الابتكار والتطوير في مواجهة التكرار؛ فالمقاومة أثبتت في كل محطة من محطات الحرب قدرتها على مفاجأة العدوّ بأساليب عمل جديدة ومتطورة.

واعتبر قنديل معركة “طوفان الأقصى” بحدّ ذاتها ذروة هذا الابتكار، حيث كانت مفاجأة ليس فقط للعدوّ؛ بل للحلفاء والعالم بأسره، لدرجة أنّها ستُدرّس في علم الحرب كواحدة من المعارك التاريخية الكبرى.

وعلى النقيض من ذلك؛ لم يُظهر الكيان أيّ براعة استراتيجية في استيعاب دروس الحروب السابقة، وبدلًا من تطوير رؤى جديدة، أعاد إنتاج ذات الأنماط الاستراتيجية والتكتيكية، معتمدًا بشكلٍ شبه كامل على التفوق التكنولوجي والاستخباري، وهو ما ثبت فشله في حسم المعركة.

ويشير قنديل إلى أنَّ “طوفان الأقصى” كنموذجٍ للتفوق “التكتيكي والتقني، قدمت دروسًا عسكرية وتقنية هائلة”، كالكفاءة الأمنية والسرية؛ فنجاح 1200 مقاتل في الإعداد والتجهيز والتنفيذ تحت غطاء من السرية المطلقة في بقعة جغرافية صغيرة (360 كم مربع) تخضع لرقابة جوية (درونات) واستخباراتية (شبكة عملاء) على مدار الساعة، يُعد إنجازًا لوجستيًا وأمنيًا فائق الدقة.

كما استطاعت المقاومة تجاوز التكنولوجيا، وأدخلت تقنيات مبتكرة للتعامل مع التكنولوجيا الصهيونية المتقدمة، مثل تعطيل أجهزة الإنذار المبكر، واستخدام المظلات الشراعية (صناعة يدوية) للقفز فوق الجدران والأسوار الإلكترونية.

ويؤكد قنديل على ضرورة فصل الإنجاز العسكري الصافي لـ “طوفان الأقصى” عن التشويه الصهيوني المتعمد، مشيرًا إلى أنَّ “ما يقارب 90% من المستوطنين القتلى قُتلوا بنيران جيش الاحتلال نفسه”.

ويستشهد في ذلك بتقارير وشهادة خبير عسكري فرنسي زار غلاف غزة، والذي لاحظ آثار قصف مدفعي وجوي ثقيل على المنازل لا يمكن لأسلحة المقاومة الخفيفة إحداثها؛ ما يؤكّد أنَّ “جيش الاحتلال الإسرائيلي هو من قصف المنازل على من فيها”.

ويكشف أنَّ شبكة الأنفاق والتكتيكات الميدانية المتقدمة، تمثل “عالمًا قائمًا بذاته وعقدة عسكرية لم ولن يستطيع جيش الاحتلال فك ألغازها؛ فهي ليست مجرد أنفاق؛ بل طبقات متصلة ومنفصلة تمنح المقاومة قدرة مذهلة على التجمع والتفرق”.

ويشير إلى أنَّ المقاومة أظهرت براعة في إدارة المعارك البرية، حيث كانت تسمح لقوات الاحتلال بالتوغل ثم تطبق عليها من الجناحين، وهذا ما يفسر كيف أنَّ عدد المقاتلين في مدينة غزة ارتفع من بضع مئات إلى عدة آلاف مع بدء المواجهة البرية.

وأثبتت المقاومة قدرة هائلة على تجديد المعارك في نفس المناطق (الشجاعية، حي الزيتون، جباليا)، حيث اضطر جيش الاحتلال لاقتحامها عدة مرات دون تحقيق إنجاز كامل؛ ما أدى إلى استنزاف قوات النخبة لديه.

 

المحور السادس: بروز وتثبيت “محور المقاومة” كحقيقة استراتيجية راسخة

ويشير قنديل في هذا الجزء من تحليله إلى واحدةٍ من أهم الإنجازات الاستراتيجية التي أفرزتها المعركة، وهي ظهور وتجذر “محور المقاومة” كحقيقة واقعة وباقية.

ورغم كل المحاولات لتفكيك هذا المحور أو التشكيك في وجوده، أثبتت المعركة أنّه كيان متماسك يمتلك رؤية مشتركة وقدرة على تنسيق الجهود وتبادل الخبرات، وهناك قواسم جامعة ومشتركة بين أطراف المحور.

ويؤكّد ناصر قنديل أنَّ ذلك يتجلى في الروح القتالية العالية المستمدة من تجارب المقاومة في لبنان واليمن وفلسطين، والتي تتفوق بشكلٍ واضح على الروح القتالية المنهارة لدى جنود الاحتلال، وفرض وجود هذا المحور نفسه كلاعبٍ أساسي في معادلات المنطقة، وبات حقيقة استراتيجية لا يمكن تجاوزها في أيّة ترتيباتٍ مستقبلية.