الخبر وما وراء الخبر

مفاجآت المقاومة في غزة: كمين بيت حانون.. جغرافيا النار وتكتيك الإذلال

2

ذمــار نـيـوز || مـتـابعات ||
8 يوليو 2025مـ – 13 محرم 1447هـ

في ليلةٍ مشبعةٍ برائحة البارود والغضب الفلسطيني، تفجّرت أرضُ بيت حانون، من صمتٍ صاغته بنادقُ الصبر، وفخاخُ الانتقام التي حفرتها أيدي المقاومة بذكاءِ مَن يحفظ كُـلّ ذرة تراب ويعدّ لكلّ خطوة حسابًا.

انفجرت العبوة الأولى، فبدأ المشهد يُكتَبُ بحبر النار، وانتهى الكمين، فدخلت المعركة فصلًا جديدًا لا يُشبه ما قبله.

لقد أثبتت عملية بيت حانون، التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية مساء السابع من يوليو، أنها ليست مُجَـرّد اشتباك ناري عابر؛ بل ضربة عسكرية استراتيجية محكمة، زلزلت عقيدة التفوق التي يفاخر بها جيشُ الاحتلال، وفضحت أوهامَ “المنطقة الآمنة” التي تغنّى بها قادتُه وهم يقفون على أنقاض المدينة المحطّمة.

لهيب المعركة لا يهدأ:

عمليةٌ بدأت بعبوةٍ ناسفةٍ مخفية، لكنّها لم تنتهِ عندها؛ فما أن وقعت ناقلة الجنود في المصيدة، حتى انطلقت الضربة الثانية -صاروخٌ مضاد للدروع أصاب روبوتًا هندسيًّا محمّلًا بالذخيرة- تبعته عبوة ثالثة انفجرت في سيارة الإنقاذ الصهيونية.

ومع تعالي صراخ جرحى العدوّ، جاء الهجوم الرابع المباشر بالأسلحة الخفيفة والقنابل اليدوية؛ حاسمًا المشهدَ في دقائقَ معدودة.

تكتيكات حرب العصابات المتقدمة، التي توظّف الأرض كسلاحٍ، والانتظار كصبرٍ مبرمج، والهجوم كتعبيرٍ عن تراكمات الغضب المنضبط، ومع كُـلّ لحظة، وكلّ مترٍ في الميدان كان محسوبًا؛ من الانتقاء الزمني، إلى التمويه الذكي، إلى إدارة النيران بالتسلسل.

وسائل إعلامية أكّـدت أن العدد المستهدَفَ في العملية يفوق الـ 40 عنصرًا؛ إلا أن العدد الذي لم يحسم حتى الآن –وحسب اعتراف الاحتلال– قُتل 6 جنود وأُصيب 14، بينهم ضباط؛ وجثث محترقة، ومسرح مغلق، وخطوط الإخلاء فُعِّلت عبر الجو، والقيادة فقدت الاتصالَ مؤقتًا بقواتها في الميدان، غير أن أرقام الضحايا في الواقع أكثر من هذا.

كارثةٌ ميدانية بكلّ المقاييس، دفعت الإعلامَ العبري لوصفها بـ”الحدث الأكثر صدمة منذ بدء الحرب”، بينما اضطر جيشُ العدوّ للاعتراف بفقدان السيطرة “اللحظية” على مسرح العملية.

ولأنَّ الحدثَ وقع في قلب ما يسمّيه الاحتلال “منطقةً مطهّرة”؛ فَــإنَّ الهزيمة هنا استخباراتية قبل أن تكون عسكرية، ومعنوية قبل أن تكون مادية.

دلالات التوقيت ورسائل العملية:

مخيم “بيت حانون”؛ كان المكان؛ وأمّا الزمان كان في لحظةٍ سياسية حرجة، والعدوّ الإسرائيلي يترنّح بين مِلفات الصفقة والتبادل، وبين انقسامٍ داخلي تتصارع فيه عصاباتٌ إجرامية تسمى جزافًا “جيش” وعصابات شبه مدنية تسمى حكومة.

وكانت النتيجة؛ أن المقاومة تستثمر اللحظةَ بعين استراتيجية، وتضرب بينما رئيسُ حكومة العدوّ يجلس في واشنطن، يسوّق الوهمَ لحلفائه؛ فيأتي الردُّ من غزة ليقول له: “هاك، هذه حقيقتُك العسكرية على الأرض”.

ووفقًا للمعطيات الميدانية؛ فَــإنَّ العمليةَ جاءت برسائلَ متعددة، الأولى: الكمين في قلب “منطقة آمنة” -حسب زعم العدو- يعني أن المقاومة تملك القدرة على خرق عمق التمركز، وتتبع التحَرّكات بدقة.

والثانية: استخدام التضاريس كجزءٍ من السلاح، يكشفُ تكيّفَ المقاومة مع التغيرات الميدانية، وتفوقها في حرب البيئة المفتوحة، وبالتالي قد تتكرّر في أماكنَ أُخرى.. وحتمًا ستُرغِمُ المعتديَ على إيقافِ إجرامه.

والثالثة: زمن التنفيذ القصير، وتتابع الضربات، يعكس تدريبًا عاليًا وتنسيقًا محكمًا، لم يعد ممكنًا تجاهلُه من أي محلل عسكري.

أمّا الرابعة: الهجوم على كتيبة “نتسح يهودا” ووحدة “يهلوم”، وهما من نُخبة الوحدات، يعني أن المقاومة لم تستهدف جنودًا عاديين بل الصفوة في قوات العدوّ الصهيوني؛ فعمّقت الجرحَ أكثرَ.

انهيار النظرية.. موتٌ يخرج من بين ركام غزة:

قبل ساعات من العملية، صرّح وزيرُ الحرب الصهيوني “كاتس”: إن “(إسرائيل) ستقيم منطقة عازلة شمال غزة”؛ فجاء كمين بيت حانون ليُنسف التصريح من أَسَاسه، ويعيد النقاش إلى المربّع الأول، أن “لا أمن، لا تطهير، لا تفوّق”.

ظنّ العدوّ أن القصفَ يمحو المقاتلين، وأن الحصار يُنهي المعركة، لكنّ بيت حانون، البلدة التي دُمّـرت عن بكرة أبيها، أثبتت أن المقاومة لا تُدفن تحت الركام؛ بل تتوارى لتضرب، وتحت الردم، ما زالت هناك شبكات نارية وممرات عبور وكمائنُ تفوقُ الخيال.

تصريح أبو عبيدة، الناطقُ باسم كتائب القسام، جاءَ كالقنبلة الثانية بعد الكمين: “بيت حانون صارت فخًّا لكم.. جثثكم وجنائزكم ستبقى تتنقل طالما ظل عدوانكم مُستمرًّا…”؛ إنه إعلان صريح باستمرار المرحلة الهجومية، وتأكيد أن المقاومة لا تُستدرَج بل تستدرِج.

مفارقة الأرقام: 8 أسرى صهاينة مقابل 40 جنديًّا

في لحظة تُجهّز فيها (إسرائيل) -في إطار المفاوضات الجارية وتتحدث بثقة- بأنها باتت تضمن الإفراج عن 8 أسرى صهاينة ضمن صفقة تبادل؛ خسرت 40 جنديًّا –ما بين صريعٍ وجريح– في عمليةٍ واحدة.

مفارقةٌ ستكون لها ارتدادات خطيرة في الرأي العام الصهيوني الداخلي، وَأَيْـضًا قد تفتح شهية المقاومة لتصعيدٍ تفاوضي من موقع قوة ميدانية، وفقًا لتقاريرَ إعلامية عبرية.

عملية “بيت حانون” إعلان استراتيجي جديد عن مرحلة “الكمائن المركَّبة”، والتي تعتمدُ على خريطة ميدانية مخفية، تقودُ الاحتلالَ إلى الحتف راجلًا أو راكبًا “عربات جدعون”، وأكثر من ذلك في مضامينها نجاحٌ سياسيّ وعسكريّ للمقاومة.

عسكريًّا، دخلت المقاومة في فصل الهجوم الذكي والمتعدد الطبقات: “تفخيخ، تمويه، إرباك، وانقضاض سريع”؛ وسياسيًّا، ضربت في عمق المشهد الإسرائيلي، وأحرجت القيادةَ أمام الحلفاء، وأربكت الداخل؛ فطالما بقيت غزة حرة؛ فَــإنَّ الأرض تعرف من يحفرها دفاعًا لا فرارًا.