“الملثم” أيقونة المقاومة.. من هو الشهيد أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام؟
ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
29 ديسمبر 2025مـ – 9 رجب 1447هـ
دخل فتى هادئ الطباع، بمشيته الواثقة، وفي بزةٍ عسكرية متسخة، يعلوها غبار الميدان إلى أحد مكاتب حركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة، أواخر سبتمبر 2004م، كان للتو عائدًا من الجبهة الشمالية حيث كان يناجز قوات الاحتلال الصهيوني في عملية “أيام الغضب” التي صمدّت فيها المقاومة أمام هجوم بريّ وجويّ، وجاءت الأوامر للفتى بالانسحاب؛ فانسحب ليُكلف بمهمةٍ جديدة.
من خلف المكتب مدَّ الشاب الثلاثيني المكنى بـ “أبي أنس” يده بورقةٍ وقال له: “هذا بيان لكتائب القسام، ستقرأه في المؤتمر الصحفي بعد ثلاث ساعات في مسجد النور”، مرّر الفتى عينيه المدربتين على التنزّه في كتب الأدب واللغة على الورقة.
عاد صوت المسؤول: “هل لديك سؤال أو استشكال؟؛ “أبدًا، البيان واضح”، ردّ الفتى ذو الثمانية عشر ربيعًا والذي تخرج لتوّه من المرحلة الثانوية ولمّا يدخل إلى الجامعة.
إذًا “ستقرأ البيان، وتتجنب الإجابة عن أسئلة الصحفيين، وإن لاح لك سؤال يمكنك الإجابة عنه من محتوى البيان، فبها ونعمة”، ردّد “أبو أنس” قبل أن يودعه، “مفهوم!” قال الفتى هازًا برأسه.
وبعد ثلاث ساعات، اعتلى الفتى المنصة مخفيًا ملامح وجهه بقناعٍ أسود، ومعتصبًا بعصابةٍ خضراء، جلس خلف الطاولة المزدحمة بميكروفونات قنوات الأخبار، وقِطع السلاح، قرأ البيان المشتمل على مجريات المعركة، وأبرز العمليات التي نفذتها الكتائب بشكّلٍ منفرد أو بالاشتراك مع فصائل المقاومة، واستعرض بعض الأسلحة المستخدمة في المعركة، وتفاعل مع أسئلة الصحفيين بحصافة.
وحين نزل عن المنصّة، لم يدر بخلد الفتى أن تلك دقائق حوّلت حياته إلى الأبد، وصيّرته وجّه القسّام الإعلامي وناطقها الرسمي، ولسانها للعالمين، وسيعرفه العالم، بألقاب متعدّدة مثل “الملثم” و”الناطق باسم الأمة” أو بكنيته الأشهر “أبو عبيدة”.
اعتلى “أبو عبيدة” المنصة من جديد بعد 20 عامًا، وافتتح أول تصريحاته في معركة “طوفان الأقصى”، معلنًا أن الطريقة الوحيدة لاستعادة الأسرى الصهاينة من قبضة المقاومة هي صفقة تبادل شاملة، ليصدق قوله بعد 15 شهرًا من إبادة شنها الاحتلال على أهالي قطاع غزة، بأن المقاومة لا تفنى وأنه لا سبيل إلى الأسرى إلا بما اقترحه عليهم الملثم منذ البداية.
وقد أدى الإعلام العسكري للقسام دورًا محوريًا في معركة “طوفان الأقصى”، بدءًا بنشر بيانات الناطق الرسمي أبي عبيدة، وتسجيل رسائل أسرى العدوّ، وانتهاءً بتصوير عمليات المقاومة، حتى تلك التي استخدموا فيها السكاكين لمواجهة جنود الاحتلال، الذي يحمل الواحد منهم 35 كيلًا من الذخيرة والعتاد.
وُلد حذيفة سمير الكحلوت “أبو إبراهيم”؛ والذي حمل لقب “أبو عبيدة”، في الـ 11 من فبراير عام 1984م، لأسرة فلسطينية مُهجرة من قرية “نعليا” التي هجّرتها العصابات الصهيونية إبان النكبة الفلسطينية عام 1948م، وعاش في مخيم جباليا للاجئين، شمالي قطاع غزة.
حصل على شهادة الماجستير في العقيدة، من الجامعة الإسلامية بقطاع غزة، وبرز كأحد الكوادر المنضويّة في صفوف كتائب الشهيد عز الدين القسام عام 2002- 2003م، وظهر أول مرة في مؤتمر صحفي متحدثًا باسم كتائب القسام يوم 2 أكتوبر 2004م، من منطقة شمال قطاع غزة، للحديث عن العدوان العسكري الإسرائيلي على مخيم جباليا للاجئين.
وبرز “أبو عبيدة” ناطقًا رسميًا باسم الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، عام 2005م، وفي يونيو من عام 2006م، أعلن عن أسر الجندي الصهيوني “جلعاد شاليط” بعملية “الوهم المتبدد”.
قامت قوات الاحتلال باستهداف منزله ثلاث مرات خلال العدوان على قطاع غزة، وفشلت باغتياله، في الأعوام: 2008، 2012، و2014م؛ بينما سطع نجمه خلال العدوان الإسرائيلي عام 2014م.
وتصدر الشهيد “أبو عبيدة” المشهد الإعلامي في الـ 7 من أكتوبر 2023م، عقب معركة “طوفان الأقصى” التي أعلن عنها الشهيد القائد محمد الضيف، بعد “العبور العظيم” لـ “غلاف غزة” وأسر وقتل المئات من جنود الاحتلال.
أعادت طائرات الاحتلال الصهيوني الحربية تدمير منزل “أبو عبيدة” في عام 2023م، وفشلت مرة أخرى باغتياله؛ بينما ظهر يوم 18 يوليو 2025م، في آخر كلمةٍ مصورةٍ له للإعلام.
وأعلنت قوات الاحتلال يوم 30 أغسطس 2025م، عن اغتياله بقصف منزله بأكثر من طائرة حربية “انتحارية” في مدينة غزة؛ ما أدى وفق بيان لعائلة “آل كحلوت” لاستشهاده وزوجته وابنتيه ونجله.
وبقي اسم وشكل “أبو عبيدة” غامضين طيلة 20 عامًا؛ قبل أن تكشف عنهما كتائب القسام مساء اليوم الإثنين الـ 29 من ديسمبر 2025م؛ مُعلنة استشهاده رسميًا، وقد حظي “أبو عبيدة” بمصداقية عالية وكبيرة، وتمتع بفصاحة وقوة لغة، ويُعد من أبرز شخصيات المقاومة وأكثرها رمزية وشهرة وجاذبية.
ويُعد “أبو عبيدة” أو “الملثم”، كما يلقبه كثيرون، رمزًا للمقاومة الفلسطينية منذ ظهوره البارز لأول مرة في 25 يونيو 2006م، وقد لفت الأنظار منذ ظهوره بثباته وطلاقة لسانه وقدرته على اختزال المعلومات والأفكار، لكن حضوره هذه الأيام بدا كبيرًا، بحجم الإنجاز العسكري الذي تحقق يوم الـ 7 من أكتوبر 2023م.
وتجاوز أبو عبيدة في شعبيته حواجز كثيرة؛ فهو يحظى بمتابعة في الوطن العربي والعالم الإسلامي وفي أمريكا اللاتينية وآسيا وأوروبا، وينظر إليه هناك كصوت للمقاومة والقضية الفلسطينية، ويلقب بـ “أيقونة الملثمين”، حيث يتابعه أكثر من 600 ألف على حسابه في تيليجرام؛ الذي أنشأه عام 2020م، وليس لديه أيّ حسابات عبر مواقع التواصل الأخرى، وحين يُغرد، فإن أكثر من نصف مليون شخص يقرؤون خلال دقائق معدودة ما كتب.
وفي ذروة العدوان الصهيوني وجرائم الإبادة، حين تحدّث “أبو عبيدة” عن العرب، لم يكن حديثه عاطفيًا، وإنما حسابًا أمام الله والتاريخ، قالها صريحة: “أنتم خصومنا أمام الله.. كل حاكم وملك وأمير وسلطان وشيخ صمت عن مذبحة غزة هو في خانة العار، وكل منظّر سياسي وداعية اعتزل القضية هو في قفص الاتهام”.
كان بمثابة بيان مرحلة وفرز وجودي، وضع “أبو عبيدة” كل دولة وكل فصيل وكل عالم وكل حزب وكل فرد أمام مرآة الدم الفلسطيني، من قدّم فعلًا فله المجد، ومن اكتفى بالبيان فهو في خانة الخذلان، محدّدًا معيار الشراكة: “الميدان لا الكلمات، الفعل لا النية، الردع لا التصريحات”.
وفي قلب خطاب “أبو عبيدة” تتجلى الحقيقة: ليست كل العواصم عواصم خيانة، وليست كل الجيوش جيوش استسلام؛ فقد استثنى اليمن من قائمة العار، قائلاً بصراحة قاطعة: “نُحيي شعبنا اليمني العزيز في يمن الحكمة والإيمان، ونحيي قواته المسلحة، ونخصّ بالتحية إخوان الصدق أنصار الله”.
هنا لم يكن يجامِل، ولم يكن يداري، بل كان يفرز، ويُقسِّم الأمة إلى فسطاطين؛ فسطاط الفعل وفسطاط التخاذل، فسطاط الجبهة وفسطاط الإدانة، وقالها “أبو عبيدة” بوضوح: “إخوان الصدق أنصار الله، فرضوا على العدو جبهةً فاعلةً أذهلت العالم، وأقاموا الحُجّة الدامغة على القاعدين والخانعين من أبناء أمتنا”.
وحين قال “أبو عبيدة”: إن “العدو لا يستطيع كسر غزة رغم الدعم الأمريكي والغربي المفتوح، فقد كان يتحدث من موقع المقاومة التي تعرف من أين يأتي الأمل، ومن يدعمها بصدق”، كان يقف خلفه على الجبهة قادة يطلقون المسيّرات من اليمن، ويمنعون السفن من الوصول إلى موانئ العدو، ويُربكون شحناته العسكرية، ويخلقون توازن رعب حقيقي من البحر إلى الجو، ومن الكلمة إلى الفعل.
كلمة “أبو عبيدة”: “إخوان الصدق”؛ كانت وسامًا، ونحتًا مفاهيميًا جديدًا في قواميس الأمة؛ فأن تكون من “إخوان الصدق” يعني أنك لست ممن انتظر المفاوضات، أو راقب بحذر، بل ممن قاتل وواجه، وصنع السلاح، وأطلق النار، واحتمل الحصار، وواجه التهديدات، وأبى إلا أن يكون في الجبهة.
حين تطرق “أبو عبيدة” إلى اليمن، لم يكن يفصل بين المعارك، وإنما كان يدمجها في ساحة واحدة، قائلاً: “المجد لليمن صنو فلسطين، وتوأم الشام في وصية رسول الله، وهو يواصل تحدّيه لأعتى قوى الظلم، ويأبى الانكسار رغم ما يتعرض له من عدوان”.
