بعد معركة البحر الأحمر: اليمن يفرض الهيكلة الشاملة لأقوى بحرية في العالم

0

ذمــار نـيـوز || متابعات ||

 

21 ديسمبر 2025مـ –1 رجب 1447ه

 

شكلت المواجهة التي خاضتها القوات البحرية الأمريكية مع اليمن ــ باعتراف واشنطن نفسها ــ زلزالاً ضرب عمق البيروقراطية العسكرية، وأعاد صياغة عقيدة المواجهة، وفرض تحولات جوهرية في نظريات الحرب البحرية الحديثة.

 

 

ومن البحر الأحمر، حيث خضعت أكثر التقنيات العسكرية الأمريكية تعقيداً لاختبار البقاء أمام الابتكار اليمني المتجدد، بدأت ملامح الاعتراف تتكشف تدريجياً، بدءاً من الرئيس المعتوه ترامب ونائبه، مروراً بوزير حربه، وصولاً إلى وزير البحرية الأمريكية، في إقرار رسمي بأن القواعد تغيّرت، وأن ميزان الكلفة والفعالية لم يعد كما كان.

 

والنتيجة المباشرة لهذه التحولات تمثلت في ما بات يُعرف داخل أروقة البنتاغون بـ“الأسطول الذهبي”، وهو توجه استراتيجي جديد يقطع الصلة مع نماذج الإنتاج العسكري التقليدية، التي وُصفت بأنها بطيئة، نمطية، ومفتقرة للمرونة، لصالح أسلحة أخف وزناً، أقل كلفة، وأسرع إنتاجاً.

 

وفي هذا السياق، وجّهت وزارة البحرية الأمريكية بإنشاء فئة جديدة من الفرقاطات، مع تأكيد رسمي على أن “نشر القدرات يجب أن يوازي سرعة التهديد”، في إشارة مباشرة إلى ما فرضته العمليات اليمنية من واقع ميداني جديد.

 

وفي تطور لافت، أعلنت البحرية الأمريكية إلغاء مشروع فرقاطات “كوستليشن” ذات الجذور الأوروبية، وقررت العودة إلى القاعدة الصناعية الوطنية، عبر اعتماد تصميم أمريكي خالص وبناء السفن داخل أحواض أمريكية، بسلسلة توريد محلية بنسبة 100%.

 

ورغم أن هذا القرار كان مستبعداً في السابق، إلا أنه يعكس ــ بحسب مراقبين ــ إقراراً واضحاً بخسارة الرهان على الخارج، في زمن حرب كشفت دروسها، خصوصاً في مياه اليمن، هشاشة بعض الخيارات الاستراتيجية الأمريكية.

 

رئيس العمليات البحرية الأمريكية، المجرم “دار الكودل” ، كان الأكثر صراحة حين ربط هذا التحول مباشرة بجبهة اليمن، مؤكداً أن “العمليات الأخيرة في البحر الأحمر جعلت هذه الحاجة أمراً لا يمكن إنكاره”.

 

 

وتعترف تقارير أمريكية بأن مخزون البحرية من القطع القتالية الصغيرة لا يغطي سوى ثلث الاحتياج الفعلي، ما دفع واشنطن للبحث المحموم عن حلول سريعة، عبر قطع بحرية صغيرة قادرة على سد الفجوة، وترك المدمرات الضخمة لمهام القتال عالي الشدة.

 

ويأتي ذلك بعد استنزاف المدمرات الأمريكية في ملاحقة طائرات مسيّرة يمنية لا تتجاوز كلفتها بضعة آلاف من الدولارات، في معادلة كلفة أربكت الحسابات العسكرية التقليدية.

 

 

كما فرض “الدرس اليمني” تسريع إدماج الذكاء الاصطناعي والأنظمة غير المأهولة، بما في ذلك مركبات ذاتية القيادة تحت الماء، وإنشاء مكتب القدرات السريعة، إلى جانب التوجه نحو نشر صواريخ فرط صوتية منخفضة الكلفة، ضمن ما تسميه واشنطن “استراتيجية الإنتاج الذكي”.

 

وفي هذا السياق يؤكد وزير البحرية الأمريكي المجرم ، بيلان، أن “السرعة هي المعيار الوحيد للنجاح”، في تحول يعكس حجم الضغط الذي فرضته المواجهة في البحر الأحمر.

 

في هذا الصدد ، يقول زكريا الشرعبي، رئيس مركز المعلومات بدائرة التوجيه المعنوي، إن المعركة البحرية شكلت لحظة فاصلة قلبت معادلات القوة البحرية التقليدية، وأثبتت عجز الإمبراطوريات عن خوض حرب مستدامة أمام أدوات منخفضة الكلفة مشحونة بالإرادة والابتكار التكتيكي.

 

ويوضح في حديثة للمسيرة أن ما جرى في البحر الأحمر يمثل تحولًا نوعيًا في تاريخ الصراع البحري، حيث أظهرت الهجمات اليمنية فاعلية عالية، جعلت حاملات الطائرات الأمريكية، مثل “هاري ترومان”، تتخذ انعطافات حادة هروبًا من صواريخ دقيقة، محولةً وجودها من أداة للهيمنة إلى هدف هش يضطر للفرار.

 

ويشير إلى أن اليمن، رغم عدم امتلاكه قوة بحرية بالمعنى التقليدي، نجح في كسر النظريات البحرية الكلاسيكية التي تقوم على أن من يسيطر على البحر يسيطر على العالم، وذلك من خلال امتلاك التقنيات المناسبة منخفضة الكلفة، وإمكانات الابتكار التكتيكي، والإرادة الصلبة التي فرضت توازنات جديدة على المسرح البحري، مؤكداً أن أي قوة لا تملك الابتكار والقدرة على فرض معادلات جديدة ستظل عاجزة، مهما بلغت قوتها التقليدية.

 

وفي جانب آخر، يلفت الشرعبي إلى توجه الشيطان الأكبر نحو تقليد أو إجراء هندسة عكسية للطائرات المسيرة اليمنية والإيرانية، وهو اعتراف ضمني بفاعلية هذه النماذج، سواء من حيث الكلفة أو السرعة مقارنة بالصناعات العسكرية الأمريكية البطيئة والمعقدة.

 

 

 

 

 

ويضيف أن أي استراتيجية تعتمد على الأساطيل التقليدية الثقيلة تواجه تحديات كبيرة في بيئة قتالية متعددة الأدوات ومنخفضة الكلفة، وأن الطائرات الأمريكية المتطورة لم تتمكن من تحقيق أي إنجاز استراتيجي ملموس في البحر الأحمر، بل إن وجودها تحول إلى عبء ثقيل بسبب ضعف القدرة الدفاعية وعدم المرونة التشغيلية.

 

ومن جانبه، يؤكد العميد عمر معربوني، الخبير في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، أن تصريحات الولايات المتحدة حول إعادة تركيز المدمرات على القتال عالي الشدة تعكس اعترافًا عمليًا بفشل التجربة الأمريكية في البحر الأحمر، وحجم التحولات العميقة التي فرضتها المواجهة اليمنية، لا سيما بعد الإنجازات النوعية التي حققها اليمن في هذا الميدان.

 

ويوضح أن اليمن حقق إنجازين استراتيجيين مهمين؛ الأول تغيير جذري في مفهوم المعركة البحرية نفسها، والثاني كسب دور أساسي في رسم الجغرافيا السياسية من خلال وصول صواريخه إلى المحيط الهندي والبحر المتوسط، وهو ما يترجم نظرية الربط بين الفعل العسكري واتساع التأثير الاستراتيجي والسياسي.

 

ويضيف معربوني في حديثة “للمسيرة” أن التجربة اليمنية أجبرت الولايات المتحدة على إعادة النظر في أدواتها القتالية، وأنماط استخدامها، والعقيدة البحرية-الجوية التقليدية، بما في ذلك طبيعة القطع المستخدمة وأساليب الانتشار والتكتيكات المعتمدة. كما أبرز أن أي استراتيجية أمريكية لن تكون فعالة ما لم تعالج الخلل البنيوي الدفاعي، إذ أظهرت المعركة أن التركيز على القوة الهجومية وحدها لم يعد كافيًا أمام أدوات منخفضة الكلفة وفاعلة.

 

ويشير إلى أن الابتكار التكتيكي أصبح عنصرًا حاسمًا في الصراعات البحرية الحديثة، كما يظهر من تجربة الإيرانيين الذين لجأوا إلى تصنيع آلاف الزوارق الهجومية الصغيرة لتجاوز التفوق النوعي الأمريكي، مؤكدًا أن المعركة اليمنية وضعت واشنطن أمام معضلات استراتيجية كبيرة، حيث فشلت الأساطيل في فرض الردع، وتحولت إلى أهداف محتملة، وفقدت وظيفتها التقليدية القائمة على السيطرة والحصار وتنفيذ الإنزالات البحرية.

 

ويتابع ” أن فشل العقيدة الأمريكية التقليدية القائمة على الضربة الأولى القاصمة، التي يفترض أن تشل الخصم وتمنعه من الرد، كشف عن ضعف البعد الدفاعي الأمريكي، وأن اليمن استطاع تنفيذ ضربات دقيقة ومكثفة دون أن تفقد قدرته على الاستمرار في التأثير الميداني والسياسي.

 

ويشدد على أن المتغيرات التي فرضتها معركة البحر الأحمر تمتد من القطع البحرية، لتشمل سلاح الجو وأدوات التحكم والسيطرة، مؤكدًا أن ما جرى يمثل تحولًا نوعيًا في طبيعة الصراعات الحديثة، ويكشف تآكل أدوات الهيمنة الأمريكية أمام قوة تمتلك الإرادة والقدرة على الابتكار والتوظيف الفعال للإمكانات المتاحة.

وهنا حقيقة لا يمكن تجاوزها، فبين وعود الرئيس المعتوه ترامب بتأسيس “أسطول ذهبي”، وتأكيدات نائبه المهووس جيدي فانز على ضرورة استعادة “السيادة الصناعية”، تبرز حقيقة باتت واضحة: اليمن نجح في فرض إعادة هيكلة شاملة لأقوى بحرية في العالم، محوّلاً مياه البحر الأحمر إلى مختبر حقيقي تسقط فيه نظريات قديمة، وتولد فيه ملامح سباق تسلح جديد.

ومن صنعاء إلى قلب الشيطان الأكبر، لم تعد موازين القوى تُقاس بحجم السفن وعددها، بل بقدرتها على البقاء ضمن معادلة الكلفة الجديدة للحرب، وهي معادلة أعاد اليمنيون رسم حدودها.