الخبر وما وراء الخبر

الذكرى الـ 58 لعيد الاستقلال.. دروس عن الخيانة والنضال

1

ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
2 ديسمبر 2025مـ – 11 جماد الثاني 1447هـ

حلت علينا الذكرى 58 لعيد الاستقلال المجيد، ورحيل آخر جندي بريطاني في 30 نوفمبر 1967م، بعد سنوات من انطلاق ثورة 14 أكتوبر 1963م ضد الاستعمار البريطاني.

وتوثّق المقاطع المصوّرة التي تعود لعشية الاستقلال مغادرة آخر مندوب سامٍ بريطاني لمدينة عدن، السير هنبري تريبليان، فيما تظهر الطائرات وهي تستعد لنقل الدفعات الأخيرة من الجنود البريطانيين، بالتزامن مع إنزال العلم البريطاني من فوق المنشآت العسكرية، ويتولى الثوار الأحرار حينها السيطرة على المواقع التي كانت تحت المحتل بعد فرار قوات الكوماندوز البحري الملكي.

في تلك الأثناء، جرت مفاوضات في جنيف بسويسرا، بين ممثلي ثورة 14 أكتوبر والجانب البريطاني، وهي المفاوضات التي انتهت بإعلان الاستقلال وعودة قائد الثورة قحطان الشعبي ورفاقه من الوفد المفاوض، وسط استقبال شعبي واسع احتفالاً بانتصار الإرادة الوطنية وطرد المحتل وإعلان قيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وفي عام 1970 يُعاد تسمية الدولة لتصبح جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

وتبقى هذه المشاهد محطة مضيئة في الذاكرة الوطنية، تخلّد تضحيات الثوار الذين أجبروا الإمبراطورية التي كانت تُوصف بأنها “لا تغيب عنها الشمس” على الرحيل، وتؤكد أن إرادة التحرر قادرة على الانتصار مهما طال زمن الاحتلال.

 

ويوثق هذا المقطع جزءًا من كلمة زعيم الاستقلال والرئيس قحطان الشعبي، خلال الجلسة الختامية لمفاوضات جنيف مع بريطانيا، حيث شدّد بفخر على أن الاستقلال لم يكن هبة أو منّة من الاحتلال، ولا حدثًا عابرًا أو وليد صدفة، بل ثمرة نضال طويل وعمليات مقاومة وكفاح مسلّح خاضها الثوار في عدن وبقية المحافظات، حتى أُجبرت بريطانيا على الاعتراف بحق الجنوب في الحرية والانسحاب من أراضيه تحت وطأة ضربات الأبطال.

ويُعدّ الرئيس والمناضل قحطان الشعبي أحد أبرز قادة حركة التحرر الوطني في جنوب اليمن، وهو المؤسّس والأمين العام للجبهة القومية التي قادت الثورة المسلحة ضد الاحتلال البريطاني، وقد ترأس وفد الجبهة في مفاوضات جنيف، ليكون أول رئيس يوقّع اتفاقية الاستقلال في 29 نوفمبر 1967، ممثلاً لإرادة الشعب الذي انتزع استقلاله بدماء الشهداء وتضحيات المناضلين.

واختارت القيادة العامة للجبهة القومية المناضل قحطان الشعبي في يوم الاستقلال، الثلاثين من نوفمبر م1967، ليكون أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، بوصفه شخصية وطنية حملت معنى الاستقلال الحقيقي، وقد اتسمت فترة رئاسته، رغم قصرها وعدم تجاوزها العامين، بالالتزام بمبادئ الثورة والاستقلال والعمل بروح المرحلة التحررية، غير أنّه واجه ضغوطاً متصاعدة من الجناح اليساري داخل الجبهة القومية، ما دفعه في نهاية المطاف إلى تقديم استقالته عام 1969م، وبعد ذلك وُضع تحت الإقامة الجبرية، ثم اعتُقل لاحقاً، إلى أن أُعلن نبأ وفاته في السجن بمدينة عدن عام 1981م، عن عمر ناهز 57 عاماً.

ويعد الرئيس الراحل قحطان الشعبي من أبرز المؤيدين لخيار الكفاح المسلح، في وقتٍ كانت تبرز فيه آراء تدعو إلى التفاوض والنهج السياسي مع بريطانيا، غير أنّ الشعبي كان يؤكد بثبات أنّ الاستقلال لا يمكن انتزاعه إلا بقوة السلاح، فالمحتل، كما كان يصفه، معروف بالكذب والمراوغة وباستخدام أساليب القمع لكسر إرادة الثورة وأبنائها.

ولهذا كان يرى أن أي تراجع عن خيار العمل المسلح سيشكّل نكسة تعيد لبريطانيا أوهام البقاء في الجنوب والاستمرار في الاحتلال، إذ لم يغادر المحتل إلا تحت ضربات الثورة وثبات الثوار، ولولا الاستبسال والتضحية ووحدة الشعب، لما تمكنت الثورة من الانتصار، ولما انسحب البريطانيون بعد مئة وثمانيةٍ وعشرين عاماً من الاستعمار والاحتلال.

وبحسب وقائع التاريخ، فإن بريطانيا لم تغادر الجنوب طوعًا، بل خرجت مهزومة تحت ضربات ثوار الرابع عشر من أكتوبر، غير أنّ هذه الثورة العظيمة جرى تغييبها عمدًا في الإعلام والمناهج الدراسية ومنابر السياسة، حتى تحوّلت في فترات طويلة إلى مجرد عناوين بلا مضمون، بينما حُجِب التاريخ الفعلي لنضالات أبنائها وتضحياتهم، كما غابت حقيقة ممارسات البريطانيين الوحشية، وهذا التغييب ترك أثرًا سلبيًا على وعي الأجيال في عموم اليمن.

وخلال السنوات الأخيرة ظهر من يحاول تقديم الاحتلال البريطاني بوصفه فترة ازدهار ونظام وقانون وتنمية، والترويج لفكرة أنّ الناس يحنّون إلى زمن الاستعمار، وهو طرح ينطوي على خبث كبير، فالاحتلال جاء إلى عدن ومحافظات الجنوب طمعًا في الثروات والموقع والموانئ والبر والبحر، وتعامل مع أبناء المناطق كعمّال بالأجرة، فيما صنع من بعضهم جيشًا تابعًا له لتنفيذ أهدافه في قمع الشعب وملاحقة الثوار وتأمين مصالحه.

ولهذا فإن تغييب نضالات ثوار أكتوبر لا يخدم إلا من يمارس الخيانة بحق الثورة واليمن شمالًا وجنوبًا، ومن عاد أو ارتضى الارتماء في أحضان بريطانيا أو الولايات المتحدة اليوم، إنما يمارس خيانة لله وللشعب ولثورة الرابع عشر من أكتوبر، وللأسف، بات البعض يحتفل بذكريي الرابع عشر من أكتوبر والثلاثين من نوفمبر كشعارات فقط لتغطية مواقفه المخزية وارتهانه للاستعمار من جديد.

يقدم هذا المرتزق عيدروس الزبيدي، نفسه حالياً كالرجل الأول في عدن والمحافظات الجنوبية المحتلة، وسبق وأن أعرب عن مواقف مثيرة للجدل تجاه الاحتلال البريطاني، فقد صرح خلال زيارة له إلى لندن، بعد أن وجهت له الدعوة رسميًا، بأن هذه كانت أول زيارة له إلى بريطانيا لأنه، كما قال، “فضلنا أن تكون أول زيارة لنا إلى بريطانيا باعتبار أن بريطانيا كانت شريكة في الماضي وساهمت في إرساء النظام والقانون في عدن وميناء عدن”.

وأضاف الزبيدي أن شعب الجنوب له إرث طويل مع بريطانيا، وهو ما أثار تساؤلات واسعة حول طبيعة هذا الإرث، باعتبار أن البريطانيين كانوا مستعمرين للجنوب اليمني، ووصف مراقبون تصريحه بأنه محاولة لتجميل صورة الاستعمار، في وقت ينبغي فيه الاعتراف بالتضحيات الكبيرة التي بذلها ثوار الجنوب في مقاومة الاحتلال البريطاني.

وقد جاءت هذه التصريحات خلال مقابلة له مع قناة «BBC» البريطانية، حيث أعيد طرحها لاحقًا في لقاء آخر أثار استياءً واسعاً بين المواطنين، الذين اعتبروا موقفه تجاوزًا للتاريخ والنضال الوطني للجنوب.

وأثارت تصريحات عيدروس الزبيدي استياءً واسعًا في المحافظات الجنوبية واليمن عموماً، بعد أن وصف الاحتلال البريطاني بفترة «ازدهار وشراكة»، في موقف اعتبره كثيرون استخفافًا بتاريخ ونضالات الشعب في عدن وبقية محافظات الجنوب.

وفي مقابلة ثانية، حاول عيدروس التبرير قائلاً إن حديثه كان عن الشراكة مع بريطانيا في المستقبل، وليس عن الماضي الاستعماري، لكنه لم يفلح في إقناع القناة، التي أصرّت على تفسير تصريحاته باعتباره تعليقًا على إرث البريطانيين الذين خلفوا إرثاً ثقافياً وحضارياً، في الجنوب، بما يشمل ماضي الاستعمار والثورة،

ولكن الرد كشف عن شخصيته، إذ لا يملك قراراً ولا يستطيع أن يصرح بتصريح يعبر عن إرادة وماضي وتاريخ أبناء الجنوب في النضال ضد الاستعمار.

ومن منظور التاريخ وحقائقه، فقد فضح الموقف السابق حقيقة المرتزق الزبيدي، إذ بدا أن عيدروس، الذي تحدث عن سلطة ما بعد حرب 1994م وكأنها احتلال، ويتجاهل في الوقت نفسه الجرائم البريطانية ويهون من حقيقة الاحتلال، ليصبح اليوم في موقف يتوافق فيه مع رموز النظام السابق، الذين كان يصفهم بالاحتلال، في إطار مشاريع إعادة ترتيب النفوذ، حيث تعمل الإمارات على فرض سياسة التوجيه والوصاية على قيادات الجنوب، بما فيهم الخونة عيدروس وطارق عفاش، بما يخدم مصالح الاحتلال والهيمنة الخارجية في المنطقة.

هذا النوع من القيادات هو الذي أوصل الأوضاع في المحافظات الجنوبية إلى مستويات غير مسبوقة من الانهيار والفوضى والضياع، تحت الهيمنة السعودية والإماراتية، لقد فرّطوا في كل شيء، حتى في أبسط مطالب المواطنين، وتحولوا إلى أدوات بيد المحتل الإماراتي والسعودي الذي يوجّههم كيفما يشاء، فالسعودي والإماراتي ليسا سوى وكلاء لأمريكا والعدو الإسرائيلي، ويتم استخدامهم بأسوأ صورة، فالقوى الأجنبية، وفي مقدمتها الإمارات والسعودية ومن خلفهم الأمريكي والبريطاني، لا تريد للجنوب أن يبقى جنوبًا ولا للشمال أن يبقى شمالًا، بل تسعى إلى السيطرة على البلد وتقاسمه شمالًا وجنوبًا وفق مصالحها، بينما تبيع لأبناء اليمن الأوهام والسراب.

 

من البديهي أن ما حدث من ظلم وفساد في عهد النظام السابق في الجنوب لا يمكن أن يُستخدم لتبييض تاريخ الاحتلال البريطاني، أو لتقديم أي مبرر له، التعامل بهذه الطريقة مع تاريخ ونضالات شعب عربي مسلم عريق، أمر مرفوض تماماً.

ولذلك، من الكذب والدجل أن يتم الإساءة لثورة الشعب اليمني في الجنوب بذريعة أن الشمال كان محتلاً، وأن ممارسات سلطة 77، أي سلطة صالح أو سلطة المؤتمر والإصلاح بعد حرب 1994م، لا يمكن أن تعطي أي مبرر للطعن في ثورة الرابع عشر من أكتوبر.

وبالتالي فإن خلف هذا التودد المبتذل من قبل عيدروس تجاه بريطانيا وأمريكا وحتى العدو الإسرائيلي، هدف واضح يتمثل في استجداء الاعتراف الخارجي بمكانته وموقعه في السلطة، هذه القيادات تعاني من عقدة نقص واضحة، ولا تمتلك أي شعور بالاعتزاز بالجنوب أو بتاريخ ثورة الرابع عشر من أكتوبر.

ومن المعروف أن ما يسمى المجلس الانتقالي وقياداته، وعلى رأسهم عيدروس، يسعون منذ البداية إلى استجداء الدعم الخارجي وتقديم تنازلات للمصالح الأجنبية، بما في ذلك أمريكا وبريطانيا وحتى كيان العدو، وبهذا فقد تكشفت حقيقة مواقف هؤلاء المرتزقة، بأنهم لا يبالون بثوابت الشعب، وقاموا برهن البلد ورهن أنفسهم، وأخضعوها المحافظات الجنوبية، للاحتلال الإماراتي والسعودي، وللوصاية الأجنبية بشكل كامل.

وعاد الأجانب لاحتلال الجنوب من جديد، ولكن بقفازات وأذرع وأدوات محلية، أبرزها المدعو عيدروس ومرتزقة آخرون استقطبتهم الإمارات بالمال والمناصب الوهمية، وعملت على إغراقهم في الفساد، وأخذت أسرهم ونساؤهم وأطفالهم إلى الإمارات كرهائن لا يُسمح لهم بالعودة إلى مناطقهم، سواء إلى عدن أو المحافظات الأخرى، وهذه سياسة إذلال واستخدام غير مسبوقة من قبل حكام الإمارات، الذين يعملون بجد واهتمام كبيرين لخدمة العدو الإسرائيلي والأجندة الخبيثة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في اليمن والمنطقة عموماً.

ومع مرور مثل هذه الذكريات والمناسبات، تتكشف للناس العديد من الحقائق عند التأمل في الواقع وفي المواقف والنتائج المترتبة على سياسات القوى والأطراف التي تدّعي تمثيل الناس في المحافظات الجنوبية.

لذا، فإن أهم درس من ثورة الرابع عشر من أكتوبر واحتلال بريطانيا للمحافظات الجنوبية هو أن العدو لا يحتاج إلى ذريعة؛ فموقع اليمن الاستراتيجي كان دائمًا سببًا رئيسيًا لأطماع القوى الأجنبية، فعندما احتلت بريطانيا عدن، لم تكن بحاجة لأي سبب قانوني أو أخلاقي، بل ابتكرت الذريعة لتبرير احتلالها، وبناءً عليه، يتضح أن النضال والوحدة هما السبيل الوحيد لاستعادة الحرية والاستقلال لليمن، شماله وجنوبه، والحفاظ على سيادته الوطنية أمام أطماع القوى الخارجية.