الخبر وما وراء الخبر

بعد خطاب “غوستافو” كولومبيا…هل حان وقت فكاك “الأمم المتحدة” من القبضة الأمريكية

1

ذمــار نـيـوز || متابعات ||

29 سبتمبر 2025مـ 7 ربيع الثاني 1447هـ

لا لسببٍ واحد لم تكن أو تعد تصلح نيويورك أن تكون مقرًا للأمم المتحدة. أمس الأول جاء قرار الولايات المتحدة بإلغاء تأشيرة الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، منتهكًا الحصانة المطلقة التي تمنحها المنظمة للرؤساء حين يحضرون اجتماعات (الجمعية العامة)”، حيث تؤكد اتفاقية مقر الأمم المتحدة ذاتها على هذه الحصانة، كما تؤكدها استشارة محكمة العدل الدولية.

لقد ذكر الرئيس الكولومبي أن قرار الولايات المتحدة انتهك مبدأ الحصانة الذي تقوم عليه الأمم المتحدة، ودعا في الوقت نفسه إلى احترام القانون الدولي، والتفكير في نقل مقر المنظمة الأممية الجامعة قبل الحديث عن إصلاحها بالجملة.

الأمم المتحدة في ضيافة السطوة

كان ملفتا في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن أعاد الرئيس الكولومبي تذكير العالم بهدف وجود هذه المنظمة وتسائل عن مدى حيادها منذ عقود في ظل ارتباطها جغرافيًا وسياسيًا بدولة واحدة مهيمنة على العالم “الولايات المتحدة” والتي تمثل اليوم بشكل صارخ اتجاه “معاكسًا” لكل توجهات العالم، وإشارته إلى أن التعددية الحقيقية “تبدأ من المكان، لا من الشعارات”.

الاستغلال الجيوسياسي

المفارقة الكبيرة التي ظهرت ضمن حدث أممي بانعقاد “الجمعية العامة “، أن هذه المنظمة المفترض أن تسعى لإحلال السلام العالمي ومنع استمرار الحروب مقيدة بوجودها على أرض دولة تصر على استمرار حرب الإبادة على الشعب الأعزل في غزة فلسطين، وعلى حماية مجرم الحرب الصهيوني نتنياهو، والذي كان جزء من حضور الحدث الأممي!! حيث يبدو الخلل الكبير واضحًا في عمل هذه المنظمة مع ما تعانيه بالتأكيد من ضغط المضيف الأمريكي لقبول حضور مجرم حرب كـ “نتنياهو” اجتماع الجمعية العامة، والتي يرأسها _وهذا مثير للسخرية_ شخصية أُعلِن أنها غير مرحب بها في (إسرائيل)، والأسوء ممارسة المضيف الأمريكي لإخلال جوهري في عمل المنظمة بإلغاء تأشيرة الفلسطينيين المدعوّين للحدث ذاته؟!. في انتهاك صريح وواضح للقانون الأممي والدولي والإنساني ككل ومصادرة لتوجهات العالم في دعم الحق الفلسطيني.

ما حدث ليس بجديد في تاريخ انتهاكات الولايات المتحدة لعمل “الأمم المتحدة”، والتحكم المباشر إلى حد ما في وصول ممثلي الدول إلى تلك المنصة الدبلوماسية الأهم عالميا، فقد سُجّلت عشرات حالات رفض التأشيرات لممثلي دول وكيانات معترف بها أمميا على مدى العقود المنصرمة. وكان آخر حالات رفض التأشيرة وأوسعها في أغسطس/آب 2025، حين أعلنت واشنطن إلغاء تأشيرات الوفد الفلسطيني قبيل الدورة الجديدة للجمعية العامة.

ورغم وضوح النصوص الملزمة في اتفاقية مقر الأمم المتحدة؛ بحرية الدول دخول الأراضي الأمريكية لأغراض أممية، فإن الولايات المتحدة تستند إلى ثغرات قانونية في تشريعاتها لإلغاء تأشيرة أي وفد، كذرائع “الأمن القومي” والاتهامات بـ”التحريض” و”دعم الإرهاب” و”انتهاك حقوق الإنسان”،…، بينما تمارس انتقائية واضحة في نهجها هذا، يقوم على أساس “معاقبة الضحية ومكافئة الجلاد”.

أمثلة عديدة عبر تاريخ الأمم المتحدة تُظهر كيف توظف أمريكا ميزة استضافة المقر لديها كنقطة نفوذ “جيوسياسي”. ففي منتصف القرن الماضي، قاطع الاتحاد السوفياتي جلسات مجلس الأمن جزئيًا، احتجاجا على قضية تمثيل الصين، في الأمم المتحدة لجمهورية الصين بقيادة “كاي شيك” في تايوان، على حساب جمهورية الصين الشعبية بقيادة “ماو تسي تونغ”. وفي ستينيات القرن الماضي فرضت واشنطن قيودا على تحركات فيدل كاسترو في أميال محدودة.

واستمرت واشنطن خلال الحرب الباردة في تبني هذا النهج ضد خصومها الأيديولوجيين، فواجه ممثلو الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية، كما واجهت الصين، وحركات التحرر الوطني من أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية قيودا متكررة، وواجهت إيران، وكوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وغير من الدول وهي كثيرة إجراءات تأخير ورفض وتقييد شملت قيادات على مختلف المستويات، وصل ببعض الدول إلى التلويح باللجوء إلى التحكيم فيما يتعلق باستغلال الولايات المتحدة لسلطاتها بصفتها الدولة المضيفة للأمم المتحدة في إصدار التأشيرات للدبلوماسيين كما حصل مع الروس في 2022م.

استثناء أممي وحيد

لقد كان الاستثناء التاريخي الوحيد لمواجهة الانتهاك الأمريكي لاتفاقية مقر الأمم المتحدة في العام 1988، حيث أقرت الدول إجراء عاجل عُدّ احتجاجا غير مسبوق على رفض إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان منح تأشيرة لياسر عرفات، فحزم دبلوماسيو الدول وقادتها حقائبهم لعقد اجتماع الجمعية العامة في جلستها التاريخية في جنيف كحل بديل، ورغم الرد الدولي على إدارة ريغان، فقد تكرّرت سيناريوهات واشنطن بمنع دول من المشاركة في نشاطات واجتماعات المنظمة الأممية.

وكان آخر مشهد من مشاهد الانتهاك والتطاول الأمريكي، متمثلا في حرمان الوفد الفلسطيني من المشاركة في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة الحالة الأكثر شمولية وإثارة للجدل. ففي أغسطس/آب 2025، لم تكتف واشنطن برفض تأشيرة الرئيس محمود عباس، بل ألغت تأشيرات 80 مسؤولا فلسطينيا، كخطوة استباقية للتأثير على توجهات الدول وثنيها عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ثم تجاوز الأمر إلى إلغاء تأشيرة الرئيس الكولومبي أمس الأول، في خرق مستمر لاتفاقية المقر الأممي.

وعلى النقيض، بادرت الولايات المتحدة إلى حماية المسؤولين (الإسرائيليين) من القضاء الدولي، وصولًا إلى فرضها عقوبات على مدّعين دوليين في محكمة الجنايات الدولية، سعوا إلى ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، بينما كانت منعت رئيس السودان السابق عمر البشير عام 2013 من دخول الولايات المتحدة على خلفية اتهامه بارتكاب جرائم حرب في دارفور؟!.

من الانتهاك إلى العقوبات!

هذه المنظمة ورئاستها وعناصرها، بدء من الهجوم على كيان “الأمم المتحدة” ونعته بالفشل، مرورًا بالتطاول على أمينه العام، وفرض عقوبات على أعضاء فيه، كما حصل مع المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيزي، وقرار الإدارة الأمريكية تجميد أصولها وحظر دخولها إلى أراضي الولايات المتحدة، بعد أن هزت الخبيرة الحقوقية عروش شركات، مثل ألفابيت، الشركة القابضة لغوغل، وأمازون، ومايكروسوفت، وغيرها، وكشف انخراطها في دعم اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي ومجازره في غزة فلسطين.

هذه التصرفات الأمريكية المضافة لسلسلة انتهاكاتها لكل ما يرتبط بـ “الأمم المتحدة”، عززت تساؤلات قانونية حول مدى توافقها مع التزامات الولايات المتحدة باعتبارها الدولة المضيفة لمقرّ الأمم المتحدة!!.

نقل مقر الأمم المتحدة

أمام مسلسل طويل من الانتهاك الأمريكي للأمم المتحدة وقراراتها وشل قدراتها، وفي ظل ممارسة الضغوط المتعددة عليها، كثيرًا ما برزت فكرة نقل المقر الدائم للأمم المتحدة، حيث أن مكاتبها تتوزع على عدة دول حول العالم؛ في سويسرا، وهولندا، والنمسا، وكينيا.

وليست المرة الأولى التي تطرح فيها فكرة نقل مقر الأمم المتحدة. فقد سبق أن أثار زعماء من دول الجنوب العالمي المقترح ذاته، خصوصا في أوقات الأزمات الكبرى، مثل الحرب على العراق، أو الصراعات في الشرق الأوسط.

في العام 2010 أثارت مجلة فوربس الأمريكية، وضع مبنى الأمم المتحدة الخاضع لترميمات كبيرة، وقد ألمح كل من جويل كوتكين، الباحث في المجتمعات الحضرية بجامعة تشابمان، وروبرت جيه. كريستيانو الخبير في الشئون العقارية بجامعة كاليفورنيا، إلى ضرورة نقل المقر خاصة وأن المبنى الحالي الذي يستضيف المنظمة الدولية يعاني “تصدعات” ومشكلات معمارية تستوجب استبداله.

وقد أشارت المجلة إلى أن المنظمة الدولية ناقشت بالفعل نقل المقر من نيويورك إلى سنغافورة بشكل مؤقت مع بداية عام 2015 غير أن المنظمة تراجعت عن الفكرة كون سنغافورة من البلاد المزدحمة، في مقابل تجاهلها استعداد الإمارات لاستضافتها بشكل دائم.

في 2014 دعا ريجيس دوبري، الفيلسوف الفرنسي، بنقل مقر المنظمة إلى مدينة القدس، باعتبارها مهد الحضارات العالمية، مشيرا إلى أنّ اختيار نيويورك، العاصمة الاقتصادية لأكبر قوة عسكرية في العالم، ينبع من “خلط غريب” بين الحق والقوة.

وفي 2015 اقترح إيغور زوتوف،عضو اللجنة البرلمانية الروسية لشؤون الدفاع، نقل المقر إلى سويسرا، ووجه رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة وقتها “بان كي مون” بهذا الشأن باعتبار أن هذا الخيار يمثل فائدة للجميع.

وفي 10 يناير 2018 طالب ألبير كرغانوف، مفتي العاصمة الروسية موسكو ورئيس الجمعية الدينية لمسلمي روسيا، بنقل مقر الأمم المتحدة من مدينة نيويورك إلى مدينة القدس، كرد على قرار الرئيس الأمريكي ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للعدو الإسرائيلي.

وإلى جانب هذه المطالبات، هناك من رأى في إسبانيا وفقًا لاعتبارات جغرافية، تاريخية، ثقافية،….، مكانًا مناسبًا لاحتضان هذا المقر والتعبير عن أهداف المنظمة العالمية بعيدًا عن هيمنة القرار الأمريكي.

ومع صعود ترامب للرئاسة الأمريكية للمرة الثانيةبرز توجّه الأمم المتحدة نحو هيكلة مكاتبها ووكالاتها وتقليص وجودها في المقر الرئيسي بنيويورك، حيث تتشارك العاصمة الكينية “نيروبي” في استضافة المقرات الرئيسية للأمم المتحدة خارج نيويورك مع كل من فيينا وجنيف، فيما تُعد نيروبي المدينة الوحيدة في الجنوب العالمي التي تستضيف مقرات رئيسية متعددة تابعة للأمم المتحدة.

ومع تطلع دول أفريقية إلى تقديم نفسها كمقرات آمنة ومناسبة لاستضافة المكاتب الجديدة التي ستنقل من نيويورك، ومن بين هذه الدول رواندا، التي قدمت بالفعل طلبًا رسميًا إلى الأمين العام للأمم المتحدة، هناك كل من قطر والنمسا وبتسوانا تطالب أيضًا باستضافة مكاتب الأمم المتحدة الجديدة، وكل هذا في ظل توجه واشنطن ترامب لتقليص دعم المنظمات الدولية، ما يعني في ظل وجود قوائم الانتهاك الأمريكي لـ “الأمم المتحدة”، ونشاطاتها الدولية أن الوقت قد حان كما قال الرئيس الكولومبي للبحث عن مكان أنسب لمنظمة كل العالم، غير أن عقبة نقل مقر الأمم المتحدة، تظل هي نفسها عقبة وقف حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، أي عقبة “الفيتو” الأمريكي، في وقت تستعد المنظمة الأممية لإنشاء مراكز إدارية جديدة في نيويورك وبانكوك، وتوحيد كشوف المرتبات في فريق عالمي واحد في نيويورك وعنتيبي ونيروبي للعام 2026م.

غير أن باستطاعة العالم بعيدا عن هيمنة وعنجهية واشنطن نقل اجتماعات “الأمم المتحدة”، إلى دولة أخرى يُتوافق عليها دون نقل مقرها الدائم، وبالتأكيد لن ينعدم خيار العالم مع مرور الوقت من “فرض” مقر آخر لـ “الأمم المتحدة” بعيد عن الفيتو الأمريكي، في خطوة ستكون الأولى لتغيير صيغة وشكل المنظمة بعيدًا عن مفهوم الإجماع القاتل، وهرمية التسيد والهيمنة المركزية على الأطراف، وإن كان عجز الأمم المتحدة الظاهر اليوم مشابهة لعجز عصبة الأمم قبل 90 عام.