الخبر وما وراء الخبر

اعترافات ما قبل السقوط.. الانهيار الاقتصادي لم يعد احتمالاً بل واقعاً

4

ذمــار نـيـوز || مـتـابعات ||
24 يوليو 2025مـ – 29 محرم 1447هـ

إعداد // عبدالرحمن العابد

“انهيار اقتصادي شامل وشيك”… بهذه العبارة المجرّدة من التجميل السياسي، أعلن رئيس حكومة العليمي، سالم بن بريك، ما ظل يُدار همساً في كواليس السلطة جنوب اليمن. وفي بلد تُغلف فيه الكوارث غالباً بصيغ دبلوماسية مطاطية، كان هذا التصريح بمثابة إعلان وفاة اقتصادي صريح.

غير أن تصريح بن بريك، لم يكن سوى القمة الظاهرة من جبل الجليد. فقبل أيام فقط، خرج محافظ البنك المركزي اليمني في عدن، ليكشف عن حقيقة أكثر فداحة:

“هناك 147 مؤسسة حكومية لا تخضع للرقابة، ولا يعرف البنك أين تذهب إيراداتها”.

بهذا الاعتراف المزدوج -من قمة السلطة السياسية وقمة السلطة النقدية- تكتمل معالم الانهيار… دولة بلا موارد، وبنك مركزي بلا سيادة، واقتصاد تُديره مراكز نفوذ محلية وإقليمية بمعزل عن مؤسسات الدولة الرسمية.

أولى حلقات السقوط.. الإيرادات خارج الدورة المالية

من الناحية الاقتصادية، فإن أي دولة لا يمكنها أن تُدير سياستها المالية والنقدية ما لم تكن تسيطر على إيراداتها العامة. لكن في مناطق “الشرعية”، تم تفكيك هذا الأساس بشكل ممنهج:

– مؤسسات حكومية تُدر ملايين الدولارات سنوياً – من جمارك وموانئ وضرائب ونفط وغاز – تعمل كجزر مالية مستقلة.

– لا تورد للبنك المركزي في عدن، ولا ترفع كشوفاتها لوزارة المالية، ولا تخضع لأي مراجعة دورية أو رقابة محاسبية.

– بعضها يحتفظ بإيراداته في حسابات بنكية خاصة، وأحياناً خارج البلاد، في تجاوز صريح لكل أعراف المالية العامة.

المحافظات المنتجة… جمهوريات مالية مستقلة

اللافت أن المحافظات التي تحتوي على أعمدة الإنتاج القومي، باتت في الواقع مراكز سلطة مالية موازية:

– مأرب تحتفظ بعائدات الغاز والكهرباء والنفط ولا تورد للبنك المركزي، بل ترفض الإفصاح عن بيانات الإنتاج والتصدير.

– حضرموت تصدر النفط منذ سنوات، إلا أن عائداته تُدار محلياً، وتتقاسمها مراكز نفوذ تحت مسمى “السلطة المحلية”.

– شبوة تشهد صراعاً مفتوحاً على الموانئ والمنافذ، وتُنهب مواردها بشكل غير خاضع لأي سلطة مركزية.

– المهرة وسقطرى تتحولان تدريجياً إلى مناطق نفوذ اقتصادي إماراتي وسعودي، مع تحييد شبه كامل للحكومة المركزية.

أمراء الحرب الجدد.. المناطق العسكرية كمراكز جباية

في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريوهات تفكك الصومال في تسعينيات القرن الماضي، تحوّلت القيادات العسكرية في الجنوب إلى ما يشبه “الإقطاعيات المالية”.

كل منطقة عسكرية تدير إيراداتها الخاصة الناتجة من الرسوم، التهريب، الترسيم، الجبايات من النقاط الأمنية، وتجارة المشتقات النفطية.

هذه الأموال لا تدخل الدورة المالية الرسمية، بل تُستخدم في تمويل الولاءات، أو تُحوّل إلى حسابات خاصة.

لا رقابة، لا محاسبة، ولا ولاية فعلية للبنك المركزي على ما يجري داخل هذه المعسكرات التي باتت تُشكل دولة داخل الدولة.

المفارقة الاقتصادية: لماذا لم ينهَر البنك في صنعاء؟

في الطرف الآخر من المشهد، ورغم الحرب، والحصار، وغياب الدعم الدولي، استطاع البنك المركزي في صنعاء الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار النقدي والمالي:

– تم توحيد الإيرادات في الحسابات العامة، بما فيها الإيرادات المحلية، الزكاة، الجمارك، الرسوم.

– تُصرف رواتب منتظمة للموظفين في القطاعات الحيوية، رغم شح الموارد.

– تم فرض رقابة مالية صارمة على التداول النقدي، وضُبطت شركات الصرافة والمضاربة بالعملة.

– يُدار الملف النقدي من جهة واحدة، تتخذ قرارات مركزية وتمنع الفوضى المالية التي تشهدها عدن.

هذه المقارنة تُظهر أن المشكلة ليست فقط في الموارد، بل في من يُديرها… وأن الاستقرار لا يُشترى بالدعم الدولي، بل يُبنى بالحكمة، والانضباط، والإرادة السياسية.

حين يفقد البنك وظيفته.. تنهار الدولة

إن وظيفة البنك المركزي ليست طباعة العملة أو تسعير الدولار في نشرة رسمية.
وظيفته أن يكون القلب النابض للدورة الاقتصادية. وعندما يُحرم هذا القلب من الدم المالي القادم من الإيرادات العامة، يُصبح جهازاً ميتاً.

في عدن، لم يعد البنك المركزي مركز القرار، بل أصبح “صندوق بريد” لتصريحات العجز والقلق، في حين أن القرار الفعلي تُصدره المحافظات، والمليشيات، والجهات الأجنبية.

ما نعيشه اليوم ليس مفاجأة… بل نتيجة منطقية لتراكمات من التفكك، الفساد، والتنازع على المال العام.
وحين تعترف الدولة بنفسها أنها في طريقها للانهيار، فإن السؤال لم يعد: “كيف وصلنا إلى هنا؟”
بل أصبح: “هل لا يزال هناك طريق للعودة؟”