[إسرائيل النووية] وازدواج القوة الغاشمة.. انهيار أخلاقي يعجّلُ بنهاية النظام العالمي
ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
25 يونيو 2025مـ – 29 ذي الحجة 1446هـ
تقريــر ||إبراهيم العنسي
المسيرة نت: قدَّم موقع مودرن دبلوماسي الأمريكي، تحليلًا للسلوك الأمريكي بعهد ترامب، مستشهدًا بتصريحاته التي حملت تهديدًا لإيران قبل بدء العدوان الإسرائيلي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وعلاقة ما حدث بالتعجيل بانهيار النظام العالمي.
وأشار “مودرن دبلوماسي” إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة على إيران، بما في ذلك الغارات المزعومة على منشأة نطنز النووية واغتيال قادة كبار في الحرس الثوري الإيراني، دفعت المنطقة نحو تصعيد خطير آخر. ردًّا على ذلك، أصدر الرئيس دونالد ترامب، العائد حديثًا إلى منصبه، تحذيرًا صريحًا: “أبرموا صفقة قبل أن يضيع كُـلّ شيء”.
وعلَّقَ الموقع الأمريكي على ما اعتبره تأطيرًا، سواءً بالاتّفاق أَو بالتدمير، بأنه “لا يعكس مُجَـرّد تبجح ترامبي، بل يكشف عن (تناقض أعمق في الفكر الاستراتيجي الأمريكي)، وَ(أزمة مصداقية) أوسع نطاقًا في الدبلوماسية الدولية. لقد قدَّم التحليلُ سؤالًا وجيهًا، يرتبطُ بحَقِّ إيران وغير إيران في امتلاك سلاح ردع طالما كان هناك استهتار بالمواثيق الدولية، كما حصل في الحرب الأخيرة.
بحسب الـ”مودرن دبلوماسي” يكمن في قلب هذا التناقض سؤال هيكلي ينبغي على منظِّري العلاقات الدولية الواقعيين من مختلف الأطياف إدراكُه: لماذا تتخلَّى إيران عن سعيها للردع النووي إذَا سُمح لـ(إسرائيل) بضربها كما تشاء، دون أية عواقب قانونية أَو دبلوماسية أَو عسكرية؟ والتناقض الفاضح أن هذا الكيان المحتلّ والذي قام بالاعتداء على دولة إيران، يمتلك ترسانة نووية، وكَثيرًا ما ردّد قادته حديثًا من قبيل حاجة استخدام قنابل ورؤوس نووية في غزة!
الاستباق ومنطق القوة:
تقوم الواقعية الهجومية، كما طرحها منظِّرون مثلُ جون ميرشايمر، على فرضية أَسَاسية؛ أن القوى العظمى تسعى إلى تعظيم أمنها من خلال الهيمنة. وينسجم سلوك [إسرائيل] تمامًا مع هذا المنطق: (إضعاف قدرات الخصوم استباقيًّا) للحفاظ على تفوقها الإقليمي. لطالما اعتمدت عقيدتها العسكرية على نشر القوة للحفاظ على الردع، بدءًا من ضربة عام ١٩٨١ على مفاعل أوزيراك [تموز] العراقي وُصُـولًا إلى قصفها موقعَ الكُبر السوري عام ٢٠٠٧.
لكن طهران لعقود من الزمن، صمدت في وجه العقوبات والهجمات الإلكترونية والاغتيالات، والآن، الهجوم الجوي المفتوح. الدرس مرير ولكنه واضح. في عالمٍ يكون فيه القانون (انتقائيًّا) وتُخَلُّ الوعود، تصبح “القوة” هي بوليصة التأمين الوحيدة. تصبح الثقة ترفًا، وضبط النفس مخاطرة بالغة الخطورة.
وفقًا للموقع الأمريكي كان من المفترض أن يكون الاتّفاق النووي لعام 2015، خطة العمل الشاملة المشتركة، استثناء. فقد وفّر إعفاءً اقتصاديًّا ومسارًا للعودة إلى الساحة الدولية. امتثلت طهران. أُجريت عمليات تفتيش. وقُيّد التخصيب. ومع ذلك، مزّقت الولايات المتحدة بقيادة ترامب الاتّفاق بعد ثلاث سنوات فقط.
ما تلا ذلك كما قال موقع “مودرن دبلوماسي” لم يكن مُجَـرّد تراجع دبلوماسي، بل جرحًا فلسفيًّا. يسوق استفهامًا واستنكارًا معًا. عندما يُسَنُّ القانونُ لخدمة “الأقوياء” فقط، وعندما تُصبح الالتزامات قابلةً للتصرف، تفقد الكلمات وزنَها. وتصبح الاتّفاقاُت أوهامًا. في عالم كهذا، لماذا تُنزع إيران سلاحها؟!!
عدم التماثل في نظام منع الانتشار
وكما قال الموقع فـإنَّ نظام منع الانتشار النووي العالمي لن يحظى بالاحترام إلا عندما يقترن تطبيقُه باتساق. فبدون نزاهة وحيادية، يصبح (أدَاة أُخرى للعقاب الانتقائي).
واستدل على ذلك مع عرض مفارقة صارخة، بين إيران وَ[إسرائيل]، فالعدوّ الإسرائيلي لم يوقع قَطُّ على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. ومن المعترف به على نطاق واسع امتلاك هذا الكيان للأسلحة النووية، حَيثُ لا عمليات تفتيش، ولا عقوبات، ولا مناقشات في مجلس الأمن. إنه كيان نووي في كُـلّ شيء إلا اسمه، لكنه مستتر بالصمت. أما إيران، فلا تزال دولة موقِّعة. ليس لديها أسلحةٌ نووية مؤكّـدة. ومع ذلك، فهي تخضعُ للمراقبة والعقوبات. اغتيل علماؤها، وهوجمت منشآتها. وقد خضعت لما قد يكون أكثرَ أنظمة التفتيش تدخُّلًا على الإطلاق.
هذا الاختلال ليس تفاوتًا قانونيًّا، بل “انهيار أخلاقي” كما وصفه تحليل مودرن دبلوماسي. أي أنه “يُخبِرُ العالم أن القواعد لا تُطبّق بالتساوي، وأنها تُطبّق على الضعفاء، وتُطبّق على العُصاة”.
وفي هذا السياق يخلص المقال إلى أن الدرس هو: إذَا أردتَ الإفلات من العقاب، فارفض المعاهدة. الغموض يُؤمّن الحماية. ومع ذلك، فـإنَّ هذا الاختلال، استراتيجيًّا أكان أم قانونيًّا، يُقوّض أسسَ منع الانتشار العالمي. ربما يُعلّم النظامُ المُصمَّمُ لمنع انتشار الأسلحة النووية الآخرين الآن كيفيةَ الوصول إليه.
أزمة الصواريخ الكوبية – درس جيد؟
يستمر التشخيص “التاريخ لا يُعلِّم، بل يبقى. تبقى الشظايا غير مكتملة، مُزعجة، ومُساء فهمها”.
في عام ١٩٦٢، خلال أزمة الصواريخ الكوبية، انقلبت الأمور رأسًا على عقب. ليس؛ لأَنَّ الرجال كانوا شجعانًا. ليس؛ لأَنَّ الاستراتيجية سادت. بل؛ لأَنَّ الخطوة التالية كانت بعيدةَ المنال، والجميع يعلم ذلك. لم تنتهِ الأزمة بضجة أَو إعلام، بل بوعود هادئة. لم يدّعِ أحد النصر. تراجعوا ببساطة. أزال السوفييت صواريخهم. تعهدت الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا. لم يُصاغ هذا الوعد رسميًّا في معاهدة، ولم يُحفر في طقوس القانون الدولي. ومع ذلك، فقد صمد.
وفي ظل هذا العرض يجزم المقال أن ما من شيء مشجع لإيران للعودة للمفاوضات مع واشنطن. لأكثر من ستة عقود منذ أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، التزمت واشنطن بوعدها. لا غزو. لا تغيير للنظام. مُجَـرّد صمود هادئ لاتّفاق قائم على (الخوف المتبادَل والاعتراف المتبادل). إنها إحدى الحالات النادرة التي قدمت فيها قوة عظمى ضمانات حقيقية وجادة. هذا ما تسعى إليه إيران. ليس المودة. مُجَـرّد اعتراف أَسَاسي بحقها في الوجود دون تهديد؛ بمعنى أن هناك عالَمًا لا يكون فيه ضبطُ النفس العسكري “منحة مقدمة”، بل شرطًا مُحترمًا، حَيثُ لا يكون نزع السلاح “انتحارًا”، والسيادة غير قابلة للتفاوض. ولكن إذَا لم تستطع الولايات المتحدة تقديمَ حتى ما قدَّمته لكوبا سابقًا – إذَا لم تستطع، من خلال القانون أَو البروتوكول أَو التزام الأمم المتحدة، ضمان عدم إجبار إيران على الامتثال للعقوبات – فلن يكون هناك حافزٌ منطقي يُذكَر لطهران للعودة إلى طاولة المفاوضات.
التفاضل والتكامل في بكين وموسكو
لقد تعاظم هذا السؤال مع تبلور ملامح الحرب. في يونيو/حزيران 2025، أفسح مسرح (الحرب بالوكالة) المجال للمواجهة المباشرة. ضربت الطائرات الإسرائيلية عمقَ الأراضي الإيرانية. ردَّت طهران بصواريخ سقطت في (إسرائيل). احترقت المدنُ “الإسرائيلية المغتصبة”. انفجرت مستودعاتُ النفط. أصبح الظل الذي طال انتظارُه حقيقةً.
وبقراءة لموقف القوى المقابِلة لأمريكا: الصين وروسيا، هناك ما له علاقة بأولوية المصلحة قبل أي حديث عن تحالفات.
مرة أُخرى، اتجهت الأنظار شرقًا: هل ستتدخَّل روسيا والصين؟… كانت الإجَابَة “لقد فعلتا ما كان متوقَّعًا. أدانتا. لكنهما لم تحَرّكا ساكنًا.
بكين، المرتبطة بإيران عبر خطوط الأنابيب والعقود والاستراتيجية، أقلُّ اهتمامًا بالعدالة من اهتمامها بالتدفق. يجب أن يتحَرّك النفط. يجب أن يبقى مضيق هرمز مفتوحًا. يهدّد عدم الاستقرار بنية صعوده. هَمُّها هو الاستمرارية، وليس المواجهة.
وبالنسبة لـ”موسكو، الغارقة في أوكرانيا، والمدعومة بارتفاع أسعار النفط، تجد منفعةً في الفوضى. كُـلّ انفجار في الخليج يُشتت الانتباه عن حربها الخَاصَّة، ويرفع ثمن البقاء. لكنها هي الأُخرى حذرة. لن تُختبر أي تحالفات، ولن تُخاطر. لن تُضحي أيٌّ من القوتين؛ مِن أجلِ إيران. موقفهم ليس موقفَ تضامن، بل موقف حفاظ على الهدوء. هذا ليس محورًا جديدًا. إنه واقعية ضبط النفس، حَيثُ يُكدس الاستقرار ويُستعان بمصادرَ خارجية للتضحية”.
نظام دولي على حافة الهاوية
هناك معادلةٌ تؤكّـد أن استمرارَ أمريكا في دعم استباقية العدوّ الإسرائيلي سيقود إلى انهيار النظام العالمي. ومن وجهة نظر “مودرن دبلوماسي”: لا تقتصر هذه الأزمة على إيران فحسب، بل تتعلق بمدى قدرة الدول القوية على الحفاظ على النظام الذي أنشأته. كَثيرًا ما يُنتقد النظام الدولي الليبرالي لنفاقه، لكن حتى الواقعيين يُجمِعون على أن وجود نظام واحد أفضل من عدم وجوده.
مع ذلك إذَا استمرت الولايات المتحدة في تأييد سياسة الاستباق الإسرائيلية، مع مطالبة إيران بالامتثال، فسيُعجّل ذلك بانهيارِ هذا النظام. ستلاحظ الدول الأُخرى ذلك. ستنتشر الأسلحة النووية. وتتلاشى جدوى المعاهدات والقانون الدولي. وفي ذلك العالم، عالمٌ لا تحكمه الأعراف، بل القوة الغاشمة. ولن يتمكّن أي طرف، ولا حتى الولايات المتحدة، من الهيمنة إلى أَجَلٍ غير مسمى.
في الختام يمكن القول إن إيران لن تتخلَّى عن سلاحها دون ضمانات. إذَا كانت واشنطن جادَّةً في وقف هذا الانحدار البطيء نحو حرب إقليمية، فعليها أولًا مواجهة الحقيقة التي طالما تهربت منها: لا يمكن الوصول إلى الدبلوماسية بالقصف. لا مع إيران. ولا مع أي شخص يتذكر الخيانةُ المتسترة بعباءة الحوار.
يبدأ هذا الاعتراف بالاتساق. الولايات المتحدة نفسها التي قدَّمت لكوبا ضمانًا هادئًا ودائمًا، عليها الآن أن تقدم لإيران ما هو أكثرَ من مُجَـرّد المؤتمرات الصحفية والتهديدات. عليها أن تُطبّق الأقوال على أرض الواقع، والقانون على أرض الواقع. وإلا، فلن يبقى شيءٌ للتفاوض، سوى وَهْم العملية بينما تتطاير الصواريخ.
ففي عالمٍ يعلو صوتُ القوة على صوت الوعود، وتُمزَّق فيه المعاهدات ويُصبح فيه الاستباق سياسةً، لم يعد السؤال هو من يملك زمام الأمور، بل إلى متى سيتحمل هذا النظام المتداعي تناقضاته قبل أن ينهار، آخذًا معه ليس السلام فحسب، بل فكرة إمْكَانية تحقيق السلام يومًا ما.