المكبِّرون في سجون الأمن السياسي.. حكاياتٌ مؤلمة من زنازين الصمود [الحلقة التاسعة]
ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
29 أبريل 2025مـ – 1 ذي القعدوة 1446هـ
تقريــر || منصور البكالي
بصوتٍ يرتسمُ على ملامحه أثرُ السنين الطويلة خلفَ القضبان، والفرح العظيم بنصر الله وتمكينه، يروي المجاهدُ جعفر المرهبي، وهو أحدُ المكبِّرين بشعار “الصرخةِ في وجوه المستكبرين” داخلَ الجامع الكبير بصنعاءَ حكايتَه المؤلمةَ في سجون الأمن السياسي.
لم تكن “جريمتُه” سوى صرخةِ حَــقٍّ مدويةٍ في وجه أمريكا و(إسرائيل)، لكن ثمنها كان سنواتٍ من الحرمان والقسوة، في زنازين باردة وجائعة، حَيثُ تجلت صورٌ من الرعاية الإلهية لتمنحَه ورفاقه قوةَ صمودٍ لا تلين.
بأي حق يعتقلوننا؟!
هكذا يبدأ المرهبي حديثه، مستنكرًا منطقَ الاعتقال الذي زجَّ بهم في غياهب السجون لسنوات طويلة لمُجَـرّد التعبير عن موقف، ويتساءل بمرارة عن “الشغب” الذي اتُّهِموا به، مؤكّـدًا أن صرختهم كانت سلمية، وأن العقاب الذي طالهم كان قاسيًا وغير مبرّر.
يقول المرهبي: “كنا نتفاجأ، بأي حق يعتقلوننا لمُجَـرّد موقف؟! كانوا يقولون لنا: “تسببتم في إثارة الشغب؟” قلنا: نحن أم أنتم؟ حتى وإن كانت قضية إثارة الشغب، يعني تستوجب أنك تتوقف أربعًا وعشرين ساعة، لماذا نُسجَنُ ثلاثَ سنواتٍ ونصفَ سنة؟ أربعَ سنوات داخل السجن؟ بأي حق؟ أي جرم تقترفه أنك في السجن؛ لأَنَّك صرخت صرخةً في هذا المكان؟ ليست داخل الجامع، بل في الصوح، وتُسجَّنُ عليها وتُغيَّبُ عن أهلك لأربع سنوات؟ لا زيارة، لا أكل، لا شرب، بأيِّ حق؟ يعني جريمة كبيرة! كانت تُعتبر جريمة”.
ويتذكَّرُ المرهبي اللحظاتِ الأولى للاعتقال، وكيف وجدوا أنفسَهم محشورين في زنزانات ضيِّقة، حَيثُ بدأت رحلة المعاناة الطويلة.
في قسوة الشتاء والجوع.. معجزات الدفء والصمود:
يستحضرُ المرهبي أَيَّـامَ الشتاء القاسية داخل السجن، حَيثُ كان البرد ينهَشُ العظام، لكن المفاجَأة -كما يروي- أنهم كانوا يشعرون بدفءٍ غريب، وكأنها عنايةٌ إلهية تحيطُ بهم.
“أيام الشتاء كان البرد قارسًا، ولا نعرف أنه برد، والناس خارج (السجن) مندهشون: كيف؟ أتى آل الصيفي يتأكّـدون أن أحدنا قد أصابه المرض من شدة البرد؛ لأَنَّ المزارع تضررت، ونحن معنا بطانية عادية، ولم نكن نشعر بالبرد، وهذه من رعاية الله التي لم نكن نتصورها”.
لم يكن هذا الدفء الجسدي وحدَه ما منحهم القوة، بل كان مصحوبًا بصلابة الروح، وزيادة في الوعي والإيمان.
ويقول المرهبي: “كنا كُـلّ يوم ونحن في زيادة وعي وبصيرة، وثبات على الموقف، لكن قسوة السجن لم تتوقف عند البرد، بل تجلّت في سياسة التجويع الممنهجة التي كانت تهدفُ إلى كسر إرادتهم”.
ويواصل المرهبي سردَ حكايته قائلًا: “أول ما استخدموه معنا داخل السجون، ونحن قبل الحرب الأولى بفترة، أُسلُـوب التجويع، وزيادة التجويع، على أَسَاس الضغط الشديد علينا، ليحصلوا على التعهدات.. لم يكن هناك أكل، ولم يصل إلينا، سوى قطعة خبز صغيرة “كدمتين” أَو ثلاث طوال اليوم، وَإذَا به في الأيّام العادية، يعطونا أقذر الأكل، وأوسخ الأكل الذي ما تقدر تأكله حتى الحيوانات، وبالذات أَيَّـام الأعياد أَو المناسبات”.
ويصف المرهبي الطعام الشحيح والقذر الذي كانوا يقدمونه لهم، خَاصَّة في المناسبات، وكيف كانت رائحته الكريهة تزيد من معاناتهم.
ويضيف: “بهذه السياسة يريدون قهرك، وقتلك نفسيًّا ومعنويًّا؛ ففي يوم العيد تكون الكلاب “شبعانة”، وكل الناس في خير، ونحن معنا فاصوليا، وفيها رائحة كأنها مجاري، وجيفة عزكم الله”.
كانت إرادَة المكبِّرين الأوائل صُلبةً وقوية، ولم تفلح معها كُـلّ أساليب القهر التي اتبعها نظام الخائن عفاش، وكانت الرعاية الإلهية تمنحهم صبرًا وقوةً عجيبَين.
ويتابع المرهبي: “نفوسنا كانت أبية، وكانت هناك رعاية إلهية عجيبة، وما كنا نشعر بهذه الأشياء كلها إلا بعد ما تنحفُ أجسادنا، يعني تخيِّل مرحلة التجويع، وما كنا نشعر بالتجويع إلا أَيَّـام الزيارات، إذَا شبعنا، ندرك كم نحن جائعون طوال أَيَّـام السنة”.
محاولات الإغراء والضغط.. وتوجيهات القائد الملهمة:
ويروي المرهبي عن محاولات إدارة السجن لإقناعهم بالتراجع عن موقفهم، بدءًا بالمديح الكاذب وُصُـولًا إلى الضغوط النفسية.
ويقول: “ذات اليوم حاولوا يقنعوننا، وكانت أولى خطواتهم أنهم كانوا يمدحوننا أنتم وأنتم.. ونقدر حماسكم، ومعنوياتكم واندفاعتكم، وقالوا المشكلة بسيطة توجّـهوا، احرفوا البُوصلة قليلًا فقط لا ترتبطوا بسيدي حسين؛ لأَنَّهم في ذلك اليوم طالبونا أن نتعهَّد، ولماذا ما نتعهَّد، وجاء لنا توجيهٌ من سيدي حسين إذَا دخلنا معهم في جدال نقول لهم: “الله أعلم”، وقال: لا ندخل معهم في جدال”.
ويتابع: “الحمدُ لله كانت توجيهاتُ القائد العَلَمِ نبراسًا نهتدي به في وجه هذه المحاولات، وعندما كرّروا محاولة فتح باب النقاش معنا، أجاب عليهم حسين قرصة أحد المكبِّرين، قائلًا: “أنتم لا تريدون أن نستمع للسيد حسين”، وهم قالوا: “أحسنت هذا فاهم ضخم”، فقال لهم: “لكن أنتم الآن تقومون بدور إبليس الرجيم، لا تريدون أن نتبع السيد، وتريدون أن نتبعَكم، أنتم تلعبون نفس دور إبليس الرجيم”.
بعدها قالوا: “با يمشونا العراق”، قلنا مناسب، ودعاهم السيد حسين في درس من الدروس يفتحون لنا المعسكرات والمدارس، وقال: ونحن با نجنِّـد الناس وندعو الناس إلى التجنيد، ولكن قال عبركم أنتم، وسَرعانَ ما انسحب علي عبد الله صالح من هذا، بعدها دخلنا معهم في نقاش نتعهَّد أَو لا نتعهَّد، وحول موقفنا من الحرب.
وفي ذاك اليوم خرجوا من عندنا مكسورين مهزومين لا يمتلكون أيَّةَ حُجّـَة، فنَّدنا وعرَّينا كذبَهم ونفاقَهم”.
أنتم بمفردكم مَن يدافعون عن الإسلام:
كلماتٌ قليلةٌ حملت في طياتها معانِيَ عظيمة، رسالة من قائدهم الشهيد عزَّزت من ثباتهم وإيمانهم بأهميّة ما يقومون به.
يقول المرهبي: “ونحن داخلَ السجن وصلتنا ورقةً صغيرةً فيها رسالةٌ من سيدي حسين، قال فيها: (أنتم بمفردكم من يدافعون عن الإسلام)، وكانت في أَيَّـام الدفع إلى الجامع الكبير، هذه العبارة شدَّتْنا شدّة كبيرة، كانت وعاد عند الناس روحيةٌ جهادية كبيرة، وجعلت المجاهدين يتفانون”.
في قلب الظلم والمعاناة، لم تنطفِئْ جذوةُ الإيمان في قلب المجاهد جعفر المرهبي ورفاقه.. لقد كانت سنوات السجن اختبارا قاسيًا، لكنها كشفت عن معدنِهم الأصيل، وقوة صمودِهم المستمَدَّة من إيمانِهم العميقِ وثقتهم المطلَقة بالله وبوعدِه بالنصر والتمكين، فكان كذلك.