الخبر وما وراء الخبر

ما كان (أحمد) فقده فقد واحد

27

ذمار نيوز || مقالات ||
[ 4 يوليو 2020مـ -13 ذو القعدة 1441هـ ]

بقلم د. || علي حمود السمحي
أستاذ النقد الحديث المشارك
نائب عميد كلية الآداب- جامعة إب

لابد من الاعتراف بداية بأن ليس من السهولة، لاسيما في هذا الظرف الأليم، الكتابة عن شخصية غير عادية ك (أحمد النهمي ) و إن بدا لك بسيطًا لتواضعه. وليس أسهل من الأولى أن تدلي بشهادة في صفحات معدودة؛ تختزل بها شخصية تملأ السمع والبصر أدبا وفكرا وعلما ووطنية. والأصعب من ذلك أن تسترجع وأنت الغارق في الحزن بصيغة الماضي حكاية شخصية عاشت تواقة للمستقبل مخلصة في سبيل التقدم والتحديث, لها حكايات عديدة بتعدد مشروعاتها على المستوى الشخصي والعلمي والأسري والوطني؛ حكايات استشرفها ذهنه حلمًا ولم تتحقق في الواقع بعد ليراها الناس فيحكونها؛ لأن الموت اغتالها قبل أن تتجسد على مرأى ومسمع الفضاء .

عرفت الدكتور أحمد صالح النهمي – قبل لقائه -من خلال كتاباته في الصحف والمجلات, إبان كنا في مرحلة التحصل الجامعية الأولية؛ ففاجأني تميزه..

وتواصلنا تلفونيًا في أثناء دراسته الدكتوراه؛ فزدت, بحسه العلمي ودافعيته الواضحة لتطوير ذاته, إعجابًا؛ كان دافعًا لي في اقتراحه لإحدى المناقشات في تخصص الأدب القديم في جامعة إب واثقًا بقدراته العلمية والمعرفية. ولأن الزملاء في القسم لم يكونوا على معرفة به فقد توجسوا من اختياري شخصًا جديدًا لاسيما أن العادة في الاطمئنان إلى من صار له باع في المناقشات من ذوي درجة الأستاذية.

غير أنه استطاع بمجرد وصوله وخوضه في النقاش أن يجذبهم فالتفوا حوله ونسوني حتى في الدعوة للغداء لكنه لم ينسني فقال: لن أتغدى إلا مع السمحي.

وكنت أنا بهذا النسيانُ سعيدا؛ لأني كسبت الرهان وقدمت دليلا عمليًا على حسن اختياري.

وبعدها لم يحتاجوا إلى أن أزكي دعوته في المناقشات التالية؛ بل كانوا يصرون هم عليه دون غيره.

أسوق هذا الشاهد لاستدل على جانب من جوانب عظمة المرحوم؛ يتمثل في أنه شخص تألفه لأول مرة تلقاه، ولن تحتاج إلى وقت طويل لتدرك الأركان التي يقوم عليه بنيان شخصيته: البساطة والنبل والعلم والإبداع.

ثم التقيت به في زياراتي لذمار لاسيما في اللقاءات العلمية (مناقشات الماجستير في قسم اللغة العربية بكلية الآداب) التي رافقته في بعضها فكانت رحلة ماتعة وفي التي لم يكن معي لم أكن ليطيب لي مقام إلا بالمقيل معه على الأقل ، وما كان لتطيب له نفس إن لم يكن في استقبالي بسيارته وحرص على استضافتي في بيته.

وفي ضوء هذه اللقاءات أستطيع أن أقول إني قد عرفته عن قرب وخبرته عن تجربة بفضل المودة والصداقة الخالصة وسهولة الاقتراب منه ، ليس في كل شيء من مواقفه وأدواره بتفصيلاتها وجزئياتها؛ فهذه يمكن أن ينهض بها زملاؤه في القسم وأصدقاؤه الذين رافقوه فيها كالدكتور عبد الله زيد صلاح الذي لم تسعدنا الأقدار بأن نلتقي ثلاثتنا معا، و إن لم يخل لقاء من ذكر أو سؤال عنه كوني أعرف أنهما توأم . ولكني استطعت أن ألم بمفاتيح شخصية الراحل أحمد صالح النهمي.

وتعززت مع الأيام جسور التواصل لأعرفه من خلال كتاباته فوق ما عرفت من جانب الصداقة والمعرفة العلمية والأدبية ، جانبًا مهما في شخصيته لا يقل أهمية عن الجانب السابق وهو دوره السياسي ونضاله الفكري و الوطني.

ومن هذا المنطلق؛ تتخذ شهادتي وجاهتها. و إن كانت قراءة هذه الشخصية تحتاج لطول وقت لتجاوز إحساس الصدمة وهولها حتى يمكن إدراك أبعاد فرادتها على نحو من الشمول والموضوعية.

ومع ذلك فسأحاول أن أستجمع قواي وأستذكر بعض ما تجود به الذاكرة عفوًا دون تخطيط أو ترتيب من المعاني والقيم التي عرفتها في شخصه.

أقر أولا بشجاعة أحمد النهمي الذي واجه الموت منتصرًا عليه؛ لأنه ما هابه ، و إن اغتاله في عنفوان توهجه وأوج عطائه المغداق ، على مستويات عدة ، تبدأ منه ولا تنتهي بحدود اليمن ، وما بينهما مهنيا وإبداعيا وإداريا ووطنيا؛ ومن ثم فإن رحيله لا يمثل فقد شخص واحد بل خسارة أمة:

والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى

إذ فقدت به القيم: مثالا للعصامية؛ نحت في الصخر حتى كون نفسه وانتزع مكانته بجده وعرقه. آمن أن مشوار الذات للمجد تبدأ من بوابة العلم فلزمه بحرص وتفوق واغترب لأجله وتحرف في طلبه حتى نال أعلى الدرجات العلمية.

وفقدت به الصداقة والزمالة: منظومة للقيم؛ يعترف بها كل من رافقه أو عمل معه بنبله النادر ومروءته المشهودة.

وفقدت به العربية: ابنًا بارا, وعالمًا بفنونها عارفًا بقدرها, معتزًا بها وعيا و هوية.

وفقدت به البلاغة: ناسكًا في محرابها، متبتلا بأسرارها ، ملمًا بشواردها وشواهدها منفتحا على ما يرفدها من معطيات النقد والثقافة.

وفقد به الطلبة معلمًا آسرًا بجاذبيته وسعة اطلاعه وقدرته على التواصل الإنساني؛ يشهد بذلك جيل من المتخرجين على يديه الذين يدينون بفضله عليهم ويعترفون بتأثيره على نجاحهم.

وفقدت به الجامعة: أحد أعمدتها حنكة وإدارة وحارسا يقظا لقيمها الأكاديمية وتقاليدها الأصيلة.

وفقدت به القصيدة: شاعرًا أصيلا متمكنا من أدواتها مقتدرًا على قيادها إذا ألقى طرب وأطرب ، وأبهرك بذوق رفيع وصور أنيقة.

وفقدت به الصحافة: أحد أقلامها الشريفة وصوت حق منذور لهموم الناس وقضايا الوطن العادلة.

وفقدت به الحداثة: مناضلاً جسورًا من أجل الدولة المدنية والمساواة وحقوق الإنسان.

وفقدت فيه الحزبية: أنموذجًا فريدًا، تسيس ودخل معترك السياسة، لكن لم تستطع السياسة ، بتحيزها الفج وتحزبها الممقوت أن تسحبه إليها بل روضها لتخدم قيمه الوطنية الثابتة، ولم تعمه فظل للآخر في نفسه مكانة وقيمة.

وفقدت به السياسة: رجل دولة من الطراز الرفيع ، إذ جمع عدة مسؤوليات في وقت واحد أعلاها عضو مجلس للشورى كان فيها مثالا للمسؤول المخلص اليقظ الضمير ، لم يصرفه المنصب عن الناس بل ازداد منهم قربًا .

وفقد به الفكر: مثقفا منفتحا ؛ تصغي إذا حدثك وأرهفت سمعك لوحدوية عمر الجاوي ورؤى جار الله عمر وتنوير إبراهيم الوزير ، وتقرأ فيه إذا كتب : يمني العشق حبري ودواتي كما قال البردوني.

وفقد به الوطن : أحد قاماته المسكون حد الوله بعشقه لا تساوم في ثوابته الوطنية وسيادته وقضاياه الكبرى، حتى مات على ذلك وهو من المؤمنين الراسخين .

وفقدت فيه أنا: كل تلك المعاني التي قل أن تجود الدنيا بمثل من تتجلى فيه كأحمد النهمي؛ جمالا وجلالا وسموًا.

أِما هو فلم يمت مادامت تلك آثاره… وشخصية بتلك الآثار ستبقى خالدة الذكر في الوجدان الثقافي والوطني والإنساني.

فإن ينقطع عنك الرجاء فإنه سيبقى عليه الحزن ما بقي الدهر

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com