الخبر وما وراء الخبر

عودة النازحين إلى شمال غزة.. رحلة الأمل فوق ركام المدينة

3

ذمــار نـيـوز || متابعات ||

12 أكتوبر 2025مـ 12 ربيع الثاني 1447هـ

تستمرّ عملية عودة النازحين من المناطق الجنوبية إلى شمال قطاع غزة، في مشهدٍ إنسانيٍّ مؤلمٍ ومؤثر، يختزل معاناة عامين من العدوان الصهيوني على غزة، ويعكس إرادة الحياة المتجددة لدى الفلسطينيين رغم الركام والمآسي.

الطريق إلى العودة محفوفةٌ بالوجع والألم، إذ يعود هؤلاء النازحون الذين اضطروا للنزوح قسرًا من مدينة غزة تحت وطأة القصف العنيف الذي تصاعد بشكل غير مسبوق، في ظل عمليةٍ عسكريةٍ برية نفذها الاحتلال الصهيوني قبل قرابة الشهرين، تعمّق خلالها في أحياء المدينة، محوّلًا شوارعها وأبنيتها إلى أطلالٍ صامتة.

العدوان الذي استمر أكثر من سبعمائة يوم خلّف وراءه مدينةً أشبه بالأشباح، بعدما دمّر آلاف الوحدات السكنية وأباد مربعاتٍ سكنيةً كاملة. مناطق كانت يومًا من أبرز معالم المدينة التاريخية والثقافية، باتت اليوم بلا ملامح، بعدما تعمّد الاحتلال طمس هويتها الفلسطينية وطمس معالمها التراثية والأثرية التي كانت تحكي تاريخًا يمتدّ عبر قرون، ومع ذلك، لم يتمكن الاحتلال من تدمير روح المدينة ولا ذاكرة أهلها.

ويعود اليوم أهالي غزة إلى مدينتهم المدمَّرة، يحملون معهم الخيام التي نصبوها قسرًا في وسط وجنوب القطاع، ليعيدوا نصبها في موطنهم، فوق الأرض التي احتضنت أحلامهم، مؤمنين بأن العوض سيكون كبيرًا، وأن الأمل أقوى من الركام.

ويعودون رغم معرفتهم بأن ما ينتظرهم ليس حياةً سهلة، بل معاناة جديدة تبدأ من الصفر، لا بنية تحتية، لا منازل صالحة للسكن، ولا مقومات للحياة اليومية. فمعظم البيوت إمّا دُمّرت كليًا، أو تضررت جزئيًا بشكل يجعلها غير قابلة للسكن، ومع ذلك، يصرّ السكان على البقاء، لأنهم ببساطة لا يريدون مغادرة مدينتهم مرة أخرى.

وتتناثر في أزقة غزة اليوم، مشاهد العودة كلوحةٍ من الصمود؛ عائلات تفتش بين الركام عن ما تبقّى من منازلها، أطفال يلهون فوق الأنقاض، وآباء وأمهات يحاولون ترميم ما يمكن ترميمه من حياةٍ تكسّرت بفعل آلة الحرب والعدوان.

أولوية قصوى

ولم يكتفِ الاحتلال بتدمير الحجر، بل استهدف كلّ ما يُعيد للحياة معناها، من منشآتٍ خدميةٍ ومدارسٍ ومستشفياتٍ ومساجد، إلى شبكات الكهرباء والمياه، وحتى الطرق التي تربط بين الأحياء. ومع ذلك، فإن غزة تواصل النهوض ببطء، بخطواتٍ مثقلةٍ بالوجع، لكنها لا تتراجع.

ويأمل السكان اليوم، ومع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، أن يبدأ تدفّق المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية إلى القطاع، وفقًا لما نصّ عليه الاتفاق، الذي يُفترض أن يتيح دخول ما بين ستمئة إلى ثمانمئة شاحنة يوميًا محمّلةً بالمساعدات، ومستلزمات إعادة الحياة الأساسية، لكن حتى اللحظة، لم تتضح أعداد الشاحنات التي دخلت فعليًا، فيما تؤكد المصادر الميدانية أن ما تمّ إدخاله بالأمس لا يكفي حتى لتغطية الاحتياجات الأولية.

وتُعدّ الأولوية اليوم لإدخال مواد الإغاثة، من خيامٍ وشوادر ومياهٍ ومواد غذائية، إلى معداتٍ لدعم الأجهزة الخدمية كالدفاع المدني والبلديات والطواقم الطبية، فهذه الجهات التي وقفت في الصفوف الأولى طوال العدوان، تعاني اليوم من نقصٍ حادٍ في الإمكانات، بعد أن دُمّرت معظم آلياتها ومركباتها ومعدّاتها.

كما أنالبلديات بحاجة إلى جرافاتٍ ومعداتٍ لفتح الشوارع وإزالة الركام، بينما يعمل رجال الدفاع المدني في ظروفٍ شبه مستحيلة للبحث عن جثامين الشهداء الذين لا يزالون تحت أنقاض آلاف المنازل المدمرة.

وتعبر المهمة عن عمق الانتماء للأرض والإصرار على استعادة الحياة مهما كان الثمن، في مشهد يسطع معه بصيص أملٍ خافت في وجوه الناس، فالمدنيون الذين عانوا القصف والنزوح والجوع والبرد، يعودون اليوم وهم مفعمون بالإيمان بأن آلة القتل توقفت، وأن الكابوس الطويل الذي طاردهم قد انتهى.

ويقول أحد العائدين: إنهم اختاروا العودة لا لأن المكان بات صالحًا للحياة، بل لأنهم لا يريدون أن يُكمل الاحتلال مخططه بتهجيرهم عن أرضهم. فببقائهم في غزة، أفشلوا مشروع التهجير الجماعي، وكتبوا صفحةً جديدةً من الصمود والتحدي.

وتبقى غزة، رغم كل الخراب، رمزًا للهوية الفلسطينية، وشاهدًا على إرادة شعبٍ لا يُكسر، فهنا، فوق هذه الأرض التي أُريد لها أن تُمحى، تنبض الحياة من جديد، ويزرع الناس أملاً جديدًا بين الأنقاض، وقد تكون العودة صعبةً، وقد تكون الطريق طويلةً وشاقة، لكنّ نبض غزة لا يتوقف، وصوتها لا يخبو، فهي المدينة التي تُدمَّر ألف مرة وتنهض من رمادها ألف مرةٍ أخرى، لتقول للعالم إن الفلسطيني لا يموت، وإن الحياة أقوى من الموت، والهوية أبقى من الاحتلال.