الخبر وما وراء الخبر

عمليات المقاومة وكمائنها في محاور القتال بغزة.. الأثر العملياتي والاستراتيجي والنفسي على العدوّ

2

ذمــار نـيـوز || متابعات ||

1 أكتوبر 2025مـ 9 ربيع الثاني 1447هـ

في مشهدٍ ميداني يبدو للوهلة الأولى محسومًا لصالح العدوّ الصهيوني من حيث الكثافة النارية والتفوق الجوي والهندسي، تظهر فجأة ساحة ميدانية مغايرة في العمق العملياتي، تكشف عن استمرار قدرة المقاومة الفلسطينية في غزة على التخطيط والتنظيم والتنفيذ والتأثير.

ونشرت كتائب القسام ضمن سلسلة عمليات “عصا موسى”، مشاهد من استهداف جنود الاحتلال وآلياته، في محاور التوغل بمدينة غزة، كما أشارت سرايا القدس إلى تنفيذ عملية
نوعية بتفجير منزل جرى تشريكه وتفخيخه مسبقًا بعددٍ من العبوات المحلية الصنع وأخرى من مخلفات العدو جرى هندستها عكسيًّا، في حي النصر بمدينة غزة.
وأكّدت أنَّ تفجير المنزل جرى أثناء دخول قوة هندسية صهيونية للمكان بهدف تشريكه وتفجيره، وقد شاركت في العملية النوعية طائرة مسيرة للسرايا من طراز “هدهد” حيث وثقت لحظة دخول قوات العدوّ وانفجار المنزل؛ ما يعطي إشارة مؤكّدةً بأنّ أحدًا من جنود العدوّ لم يخرج مصابًا، وأن كل من في المبنى هم في عداد القتلى والمفقودين، فيما شن العدوّ غارات عنيفة جدًا وغير مسبوقة في محيط مسرح العملية.

وشكّلت الكمائن والعمليات العسكرية المختلفة والمستمرّة والتي نُفّذت في الـ 48 الساعة الماضية، تطورًا نوعيًا في معادلة الاشتباك، ورسّخت من جديد منطق العمل تحت الأنقاض، وأعادت سؤالاً جوهريًّا هل يمكن لكمائن محدودة، ضمن بيئة مدمّرة عسكريًّا، أنَّ تُحدث تغييرًا استراتيجيَّا في جبهة غزة؟

قراءة تكتيكية لعمليات وكمائن المقاومة

ومن خلال دراسة بيئة التنفيذ يتضح أنَّ الكمائن نُفّذت في بيئتين متباينتين؛ فالأولى أطراف مدينة غزة وتتمثل يبيئة كثيفة البناء العمراني، وتعرّضت لتدمير شامل؛ فيما كان “حي النصر” بيئة أشبه بمسرح عمليات مفتوح، لكنها مليئة بالأنفاق والتضاريس المدنية.

ورغم ما يُعرف عن تفوق جيش العدوّ الإسرائيلي في الاستخبارات الجوية وعمليات المسح الطبوغرافي، نجحت وحدات الجهاد والمقاومة في استغلال الفجوات، منها استخدام شبكات أنفاق ما زالت نشطة، وتفخيخ الممرات المتوقع أنَّ يسلكها العدوّ.

كما يعمل المجاهدون على إنشاء نقاط رماية وإطباق ناري مزدوج “أفقي – عمودي”، مع استخدام أسلوب “الكمين المرتجع” والمعروف في العلوم العسكريّة، بـ “كمين في نقطة تراجع محسوبة” من عناصر المقاومة.

ومن خلال دراسة طبيعة الكمائن، يتبيّن أنّها لم تكن عشوائيَّا ولا ارتجاليًّا؛ بل تحمل بصمة استخبارية ميدانية، كمعرفة مسبقة بمسار وحدات العدوّ، في توقيتٍ متزامن مع تبديل الألوية والكتائب المشاركة في التّقدم، والقيام بتسجيل وتصوير العملية وبثّها؛ ما يعني تحكّمًا إعلاميًا في الرواية.

نوعية القوة المستهدفة في جيش العدوّ

وفقًا لبيانات جيش العدوّ الصهيوني يتبيّن أنَّ أكثر الإصابات يأتي في كتيبة “نحال الحريدي” من لواء “كفير” وهو لواء المتدينين ويتبع “للفرقة ٩٩”، واستهداف الكتيبة الحريدية “نتسح يهودا” أو كتيبة 97 تحديدًا، يُعدّ حدثًا لافتًا، لما له من حساسية عقائدية واجتماعية كون هذه الفئة تُمثّل قاعدة دعم لمجرم نتنياهو؛ ما يعني أنَّ الضربة لها أبعاد سياسية داخلية.

ورغم التكتم الشديد من قبل الكيان عن خسائره؛ إلا أنَّ مقتل وجرح عدد غير قليل من جنوده في كمائن موثّقة، يثير تساؤلات داخل كيان العدوّ حول سبب الزجّ بكتيبة غير مدرّبة جيدًا على قتال المدن؛ ولما له من تأثير نفسي على الأُسر الحريدية، واهتزاز في الثقة بقيادتها العسكرية.

ويرى مراقبون أنَّ فعالية الكمائن في ظلّ الترويج بانهيار البنية القتالية للمقاومة، يؤكّد الاستنزاف من تحت الركام؛ فرغم أنَّ العدوّ يدّعي أنّه “فكّك بنية المقاومة”، إلا أنَّ تنفيذ عمليات كمين ناجحة بهذا المستوى يعني أنَّ بنيتها ما زالت قائمة، ويكشف أنَّ هناك وحدات غير نمطية (مثل الخلايا المستقلة واللامركزية) تواصل العمل بتشخيص ميداني خاص.

كمائن المقاومة لا تُحدث تغييرًا ميدانيًا واسعًا، لكنها تُربك تموضع القوات الصهيونية، وتُبطئ حركتها، وتدفع إلى زيادة التحصين وإعادة الانتشار؛ ما يُخفّض من سرعة التّقدم أو يوقفه في محاور الاشتباك.

كما أنها تنقل المعركة من حرب استهداف عن بُعد إلى حرب احتكاك خطرة لا ترغب بها قوات الاحتلال وتحاول تجنبها، وبالتالي تثبت أنّ تفوق العدوّ في الجو لا يعني السيطرة على الأرض.

التأثير على الجبهة الداخلية الصهيونية

تعمل المقاومة من خلال اتباع وسائل ضغط وحرب نفسية محكمة إلى الوصول إلى نقطة الانهيار المجتمعي داخل كيان الاحتلال سواء عبر رسائل الأسرى أو من خلال الكمائن؛ فحين يُقتل أو يُصاب “حريدي” في غزة، تُطرح مجددًا الأسئلة، “لماذا نُرسل أبناءنا إلى المعركة؟”، وتنبع هذه المسألة من أنَّ الغالبية الحريدية لا تؤمن أصلاً بالصهيونية السياسية.

وفي مقابل انهيار السرديّة الإعلاميّة الصهيونية تقوم المقاومة ببثّ لمشاهد الكمائن، وتوثيق إصابات دقيقة، وهو ما يتناقض مع رواية جيش الاحتلال القائمة على: “نُسيطر، نُدمّر، لا مقاومة”؛ ما تُخلق فجوة بين الإعلام الرسمي والرأي العام، وهو ما يُضعف الجبهة الداخلية الصهيونية.

ووفقًا بخبراء عسكريين؛ فكمائن المقاومة في حدّ ذاتها لا تُغيّر الواقع الميداني بمعنى استعادة السيطرة أو منع العدوّ من التقدم، لكنّها، تُبقي المقاومة حيّة في الوعي والواقع، وتمنع العدوّ من إعلان “نهاية المعركة”، وتجعل كلفة الاستمرار في الاحتلال أو الاجتياح أعلى من القدرة على تحمّلها، كونها أعمال إيذائيّة تكلّفه بشريًّا ما يجعل القوّات في إستنزاف دائم، وتُعيد بناء الردع المعنوي الخاص بها: “لسنا منهارين كما تزعمون”.

لقد أثبتت الكمائن الأخيرة أنَّ الحرب على غزة لم تنتهِ؛ بل دخلت مرحلة جديدة من الاحتكاك الكامن واللامتماثل، ورغم أنّ كيان العدوّ يراهن على الإنهاك؛ فإنّ هذه الكمائن تعيد تشكيل بيئة الرعب العسكري وتضع خطوط تماس جديدة، من خلال التركيز على النّوع لا الكم في العمليات، وتوثيق الكمائن وبثها لاستثمارها في الحرب النفسية، وتفعيل وحدات الاستنزاف المنفصلة جغرافيًا، واستهداف نقاط حساسة في تشكيلات العدوّ الاجتماعية كـ “الحريديم، المجنّدين الجدد، الاحتياط”.