الخبر وما وراء الخبر

المناضل جورج عبد الله.. أنموذجٌ لانتصار المقاومة والنضال

2

ذمــار نـيـوز || مـتـابعات ||
26 يوليو 2025مـ – 1 صفر 1447هـ

بعد أكثر من 41 عامًا في السجن الفرنسي يعودُ الناشطُ اللبناني جورج عبد الله المؤيِّد لفلسطينَ، إلى لبنان.

ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، كان جورج عبد الله يردّد مقولة: “أنا مقاتلٌ ولست مجرمًا”، وهي جملةٌ كان يكرّرها كأقدم سجينٍ عربي في أُورُوبا، دون أن يطأطئَ رأسًا أَو يحنيَ قامةً في غُربةٍ بسجون فرنسا تجاوزت الأربعين عامًا، لكنه اليومَ يعودُ لاستئناف النضال من جديد بروح الشباب وملامح الكبر بعد أن أُطلِقَ سراحه.

جورج عبد الله، ابنُ العائلة المسيحية الذي وُلد عام 1951 في قرية القبيات بعكار شمالي لبنان، وانتسب منذ الخامسة عشرة إلى الحزبِ السوري القومي الاجتماعي، ثم عمل في مجالِ التعليم. وكَثيرًا ما كان يقولُ في سِياقِ دفاعِه عن نفسه أمامَ القضاة الفرنسيين: “إن الطريقَ الذي سلكته أملته عليَّ انتهاكاتُ حقوق الإنسان المرتكَبة ضد فلسطين”.

لنضالِه وسجنه الطويل تاريخٌ مفعمٌ بروح المقاومة التي لا تستكين؛ لقد صمد النضال لأربعة عقودٍ طويلة بين أربعة جدران، وهو اليوم يشُبُّ بنضاله عن طوق سجّانه، حَيثُ رحابة الفضاء الذي يوحي بالأمل، ويرافق مسيرة المقاومة والنضال الطويل لفلسطين وأحرار الأُمَّــة.

عام 1978، أُصيب جورج عبد الله أثناء اجتياح العدوّ الإسرائيلي للبنان، وانضم إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وهي حركةٌ يسارية تزعمها جورج حبش. بعدها، أسَّس مع أفراد من عائلته ما سُمِّيَ بـ”الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية”، وهو تنظيمٌ ماركسي مناهض للإمبريالية، حَيثُ تبنَّى خمس هجمات في أُورُوبا بين عامَي 1981 و1982 في إطار نشاطه المؤيد للقضية الفلسطينية، وأوقعت أربع من تلك الهجمات قتلى في فرنسا.

عام 1984، دخل المناضلُ اللبناني إلى مركَزٍ للشرطة في مدينة ليون الفرنسية، طالبًا الحِمايةَ من مطاردة “الموساد” الذين كانوا يسعَون لقتله وقتَها. كان حينها يحملُ جوازَ سفرٍ جزائريًّا، وقد استخدم جوازاتُ سفر من مالطا والمغرب واليمن لدخولِ يوغوسلافيا وإيطاليا وإسبانيا وسويسرا وقبرص، لكن السلطات الفرنسية سَرعانَ ما أدركت أن الرجلَ الذي يجيد الفرنسية ليس سائحًا، وإنما هو “عبدُالقادر السعدي”، وهو اسمُه الحركي.

ومع ادِّعاء العثور في إحدى شققه بباريس على أسلحة، بينها بنادقُ رشاشة وأجهزة إرسال واستقبال، حُكم عليه عام 1986 بالسجن أربع سنوات بتهمة التآمُر الإجرامي وحيازة أسلحة ومتفجرات.

وفي العام التالي، مَثَلَ أمامَ محكمة الجنايات الخَاصَّة في باريس بتهمة المشاركة في اغتيال الدبلوماسي الأمريكي تشارلز راي، والصهيوني ياكوف بارسيمينتوف عام 1982، ومحاولة اغتيال ثالث عام 1984.

ورغم أنه نفى التهم، حكم عليه القضاء الفرنسي بالسجن المؤبد، مع أن النائب العام وقتَها طالب بسجنه “عشر سنوات”، وعلى الفور شُكّلت لجنة دعم للمطالبة بالإفراج الفوري عنه.

كانت الضغوطُ الأمريكية المباشرة ومتابعةُ العدوّ الإسرائيلي لوضعه كسجينٍ مقاوِمٍ هي التي حالت دونَ إطلاق سراحه، وسط مواقفَ رسمية وشعبيّة لبنانية طالبت باستعادته. ورغم أن فرنسا نادرًا ما تحتفظُ بسجناء محكومين بالمؤبد لأكثرَ من 30 عامًا، فَــإنَّ حالةَ الأسير جورج عبد الله شكّلت استثناءً بفعل التعقيدات السياسية المرتبطة بمِلفه.

عام 2022، قال عنه محاميه جان لويس شالانسيه: “إنه في حالة جيدةٍ من الناحية الفكرية… إنه مناضلٌ متمسكٌ بمواقفه، يقرأ كَثيرًا، ويبقى على اطلاع بما يحدُثُ في الشرق الأوسط”.

وبصفته سجينًا “سياسيًا”، حشدت محنتُه ناشطين من الحزب الشيوعي الفرنسي واليسار الراديكالي الذين تحَرّكوا تضامنًا معه، واتهموا الحكومات المتعاقبة بالقسوة المفرطة بحقه، إلى الحد الذي منحته فيه البلدياتُ التي قادها شيوعيون فرنسيون صفةَ “مواطن فخري”، ونُظِّمت تظاهراتٌ أمام سجنه على نحوٍ متكرّر.

في أُكتوبر الماضي، كتبت آني إرنو، الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 2022، في صحيفة لومانيتيه، أن “جورج إبراهيم عبد الله ضحيةُ قضاء الدولة الذي يُلحِقُ العارَ بفرنسا”.

وفي سجن لانميزان جنوبَ غربي فرنسا، بقي مناضل فلسطين أربعة عقود، تتحدى كبرياؤه المقاوِمة غرورَ وأطماع العدوّ الصهيو-أمريكي. لقد قُدّمت له مرارًا عروضٌ للتنازل مقابل حريتِه، لكنه رفضها، وهو صاحب مقولة: “لن أكونَ سجينًا خارجَ الزنزانة، بل حرًّا داخلَها”.

وحين خرج، ظل ذلك الصوتَ المقاوم كما هو. ومن داخل قاعة الشرف في مطار بيروت، أطلق جورج عبد الله أولى تصريحاته المؤكِّـدة التزامَهُ بخيارِ المقاومة، وموجِّهًا تحيةً إلى “شهداء المقاومة”. وقال جورج: “صمودُ الأسرى مرهونٌ بصمودِ رفاقِهم في الخارج”.

وكانت أولى دعواته أنه يجبُ تصعيدُ المقاومة، فكما يقول: “من المعيب على التاريخ أن يقفَ العرب متفرجين على معاناة أهل فلسطين وأهل غزة… مقاومتُنا ليست ضعيفةً بل متجذرة، ويجب الالتفافُ حولها أكثر من أي وقت مضى”.