الخبر وما وراء الخبر

حكاية الجاسوس الصهيوني “إيلي كوهين”.. كيف سلَّم الشرع أرشيفَه للعدو الإسرائيلي؟ [الحقيقة لا غير]

4

ذمــار نـيـوز || تقارير ||

26 مايو 2025مـ 28 ذي القعدة 1446هـ

تقرير|| عباس القاعدي

رصدت أجهزةُ المخابرات السورية في دمشق عام 1965م، ذبذباتٍ لاسلكيةً غيرَ مألوفة، إلا أنها لم تتمكّن من تحديد مصدر هذه الإشارات.

في ذلك الوقت، كان التواصل الدولي يتم عبر التليغراف، حَيثُ كانت السفارات الأجنبية في العاصمة السورية دمشق تبعث برسائلَ مشفَّرة بإشارات ورموز خَاصَّة، بالتنسيق مع جهاز المخابرات السوري.

وعلى الرغم من ذلك، لم تتعرف المخابرات السورية على بعض الإشارات التي صدرت خارج إطار التنسيق المعتاد مع تلك السفارات، وكانت الذبذبات تُبث من محيط السفارات الأجنبية نفسها، لكنها لم تتطابق مع البيانات المعروفة لدى المخابرات السورية، وتم إجراء تحريات ومتابعات من قبل الأمن السوري، إلا أنها لم تسفر عن نتائجَ ملموسة، حتى تمكّن ضابطٌ سوري برتبة رائد، في الثامن عشر من يناير 1965م، من تحديد موقع الشقة “العمارة” التي تنطلق منها هذه الإشارات الغامضة، إضافةً إلى التعرف على المصدر والشخص المسؤول عنها.

عام 1965م:اكتشاف الجاسوس يلي كوهين:

وفي الوقت نفسه داهمت السلطات السورية عددًا من السفارات الأجنبية بحثًا عن الإشارات غير المعروفة، لكن الجيش والأمن السوري عجزا عن اكتشاف مصدر الرسائل المشفَّرة التي كانت تخرُجُ من العاصمة دمشق، إلى أن جاء ضابطٌ في سلاح الإشارة بالجيش السوري الرائد “محمد وداد بشير”، وأصبح هو المسؤول عن قسم الإشارة في الجيش، وكان يتسم بالذكاء والوطنية.

هذا الضابط نجح في الاستفادة من جهاز اشترته سوريا من الاتّحاد السوفيتي، ومن خلاله تم التعرف على العمارة التي تخرج منها الرسائل المشفَّرة عبر ذبذبات خَاصَّة.

في تلك الحقبة، كان الصراعُ العربي الإسرائيلي يحتلُّ مكانةً بارزةً في وعي ومشاعر الشعوب والجيوش العربية، وكانت مسألة التعاون أَو التعامل مع العدوّ الإسرائيلي تُعتبر جريمة جسيمة تهز الضمائر الوطنية؛ فالأمة بأكملها كانت ترفض بقاء الصهاينة على الأرض العربية الفلسطينية؛ مما جعل المقاومة والرفض الرسمي والشعبي في أوجهما، وكانت المواجهة الحربية بين الدول العربية وكيان العدوّ الصهيوني دائرة بشكلٍ محتدم، حَيثُ كان العدوّ يولي اهتمامًا بالغًا لاختراق الأنظمة والجيوش والمجتمعات العربية.

وحينَها لم تكن أساليبُ التجسُّس كما هي عليه اليوم؛ إذ لم يكن بالإمْكَان جمعُ المعلومات إلكترونيًّا أَو عن بُعد كما هو الحالُ الآن، بل كانت أهم أدوات التجسُّس هي زرع العملاء داخل المجتمعات والمؤسّسات العسكرية، وكلما نجح العدوّ في تمويه العملاء المزروعين داخل الجيوش العربية وصناعة أجهزة تجسس متغلغلة، كان ذلك يُعد إنجازًا استخباراتيًّا عظيمًا وتاريخيًّا، وقد تحقّق ذلك بفضل جهود الكيان الصهيوني في زرع الجاسوس اليهودي المعروف باسم “إيلي كوهين” داخل سوريا، بعد أن خضع لمرحلة إعداد وتدريب مكثّـف مكَّنَته من تعلُّم اللُّغة العربية باللهجة السورية بدقة.

جوازَ سفرٍ أرجنتينيًّا والعبور إلى سوريا:

في عام 1961، منح كَيانُ العدوّ الصهيوني الجاسوسَ جوازَ سفرٍ أرجنتينيًّا، وفقًا لقِصة كونه مهاجِرًا من أُصُول سورية، وأرسلوه إلى الأرجنتين، وهناك، بدأ يزورُ السفارةَ السورية ويتعرَّفُ على الجالية السورية في المهجر والموظَّفين بالسفارة، وقدَّم نفسَه كتاجرٍ ينحدرُ من أصول سورية، ومع مرور الوقت، اكتسب مكانةً مرموقةً لدى أبناء الجالية، وأظهر حماسةً وطنيةً كبيرةً بصفته ناشطًا وطنيًّا ورجلَ أعمال كَبيرًا، حتى أصبح شخصيةً محترمةً تقيمُ الولائمَ والمآدبَ وتوزِّعُ الهدايا في المناسبات الاجتماعية والوطنية، وبحضور كِبارِ الدبلوماسيين السوريين كضيوف رئيسيين، وبعد ذلك، تمكّن من الحصول على جواز السفر السوري والانتقال إلى دمشق وكان اسمُه الحقيقي “إلياهو بن شاؤول كوهين”، وأصبح في الجواز الجديد السوري كامل أمين ثابت.

علاقاتٍ واسعة ومهمة شملت ضُبَّاطًا ومسؤولين:

انتقل الجاسوس كوهين من الأرجنتين إلى العاصمة السورية، في شهر يناير عام 1962م، وحمل معه آلاتٍ مهمةً ودقيقة للتجسُّس؛ لأَنَّه لم يخضعْ حتى للتفتيش، في الشهور الأولى من وصوله، تمكّن من نسج شبكة علاقاتٍ واسعة ومهمة شملت ضُبَّاطًا في الجيش والأمن والمسؤولين وقيادات حزبية ورجال أعمال وإعلاميين، وكان يحرص على زيارة أصدقائه في مقرات عملهم، وكانوا يتحدثون معه عن تكتيكاتهم في حال نشوب حرب ضد كيان العدوّ الإسرائيلي، ويجيبون عن أسئلته فيما يتعلق بأسلحة الجيش السوري ومختلف تشكيلاته، وكانت المعلومات التي يحصل عليها تصل أولًا بأول إلى العدوّ الإسرائيلي مع قوائم بأسماء وتحَرّكات الضباط والقيادات في سوريا.

استطاع الجاسوس من خلال علاقته بضباط لهم صلة بوزارة الدفاع أن يصل إلى داخل تحصينات الجيش السوري الدفاعية في مرتفعات الجولان، وقام بتصوير تلك المواقع وإرسالها إلى الموساد.

استمر كوهين، في تزويد العدوُّ الإسرائيلي بالمعلوماتِ من داخل العاصمة السورية دمشق لمدة أربع سنين، قبل أن ينجحَ الضابطُ السوري في سلاحِ الإشارة، الرائد “محمد وداد بشير”، الذي تم اعتقاله لاحِقًا على يد السوريين أنفسهم، ورحل عن الحياة داخل السجن، في اكتشاف مكان انطلاق الرسائل الاستخباراتية المشفَّرة، والوصول إلى الشقة التي يسكن فيها ويستخدمها الجاسوس كوهين لإرسال الأخبار والأسرار من داخل العاصمة دمشق إلى وسط جهاز الموساد في يافا المحتلّة، التي يُطلَقُ عليها اليهود مسمَّى [تل أبيب].

إسقاط الموساد وفضيحةً غير مسبوقة:

هذه هي قصة أشهر جاسوس في تاريخ المخابرات الصهيونية، تمكّن أبطال الجيش السوري وضباطه الأحرار من إسقاط الموساد وكشف أخطر عملائه، وشكّل ذلك هزيمةً كبيرةً وموجعةً للإسرائيليين وفضيحةً غير مسبوقة، ليس فقط لكشفِ هذا الجاسوس وانهيار المنظومة التي اعتمد عليها الموساد في تجنيد العملاء واختراق الدول العربية وجيوشها، بل أَيْـضًا؛ بسَببِ فشل استغلال سوريا لقرارِها الوطني المستقل في تلك المرحلة، حَيثُ رفضت الدولة السورية الانصياعَ للضغوط والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية، وعجَّلت بمحاكمة هذا الجاسوس وإعدامه، وكانت عمليةُ الإعدام حينَها مؤلمةً ومحرجةً للصهاينة بشكل كبير، وعكست روحَ التحدي والإصرار على المبادئ ومقاومة العدوّ الإسرائيلي في تلك الحقبة.