المكبِّرون في سجون الأمن السياسي.. حكايات مؤلمة من زنازين الصمود [الحلقة العاشرة]
ذمــار نـيـوز || تقاريــر ||
30 أبريل 2025مـ – 2 ذي القعدوة 1446هـ
تقريــر || منصور البكالي
المجاهدُ صلاح حَطَبَة، أحدُ الأصوات التي هتفت بشعارِ الصرخة في وجوه المستكبرين، داخلَ الجامع الكبير بصنعاء في بدايات انطلاق المشروع القرآني، يروي فصولًا مؤلمةً من رحلتِه القسرية إلى سُجُون الأمن السياسي إبّانَ حكم السفارة الأمريكية لليمن.
منذ لحظة الاعتقال المهينة، مُرورًا بالزنازين المكتظَّة والباردة، وسياسة التجويع الممنهجة، وُصُـولًا إلى الحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية والرعاية الصحية، يكشف حطبة عن صور الرعاية الإلهية، وصمود الروح الواثقة بالله، وإضافة إلى لمحات من الإنسانية وسط قسوة بعض السجانين، وتأثير توجيهات الشهيد القائد حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- في تعزيز صبرهم وثباتهم.
30 مكبِّرًا في زنزانة رقم (2):
كانت الخطوة الأولى لحطبة في عالم السجن من الاستقبال إلى داخل الزنزانة رقم (2)، حَيثُ وجد نفسه محشورًا مع سبعة عشرَ آخرين، يواجهون مصيرًا مجهولًا، سبقهم إليها 12 آخرون، قائلًا: “اعتقلونا في شهر رمضان، من الجامع الكبير، وأول ما وصلنا السجن أدخلونا الاستقبال، وجرَّدونا من الملابس، ولم يبقوا فوقنا، غيرَ الثياب فقط، وادخلونا الغرفةَ رقم (2)، وكان قبلنا اثنا عشر من زملائنا الذين سبقونا الجمعةَ الأولى، ليكون العدد 30 سجينًا في زنزانة ضيِّقة، كلنا واقفون، لم نستطع القعود لضيق المكان، وهناك التقيت ببعض الإخوة من بلادنا، أتذكر منهم: أحمد صغير المراني، وعلي مرغم، وعبد الخالق”.
بعد أَيَّـام قلائل زاد عدد المكبِّرين المعتقلين في زنازين الأمن السياسي؛ فتم نقلُ حطبة ورفاقه إلى بدروم مظلِم تحت الأرض، قضوا فيه عشرةَ أشهر في عُزلة تامة عن نور الشمس، في هذا القبر الحي، كان الإيمان هو السراج الذي أضاء قلوبَهم.
هنا يقول حطبة: “لعشرة أشهر تقريبًا ونحن في البدروم، لا تدخل علينا الشمس، وممنوع علينا التشمُّس، ربما خرجنا الشماسي مرة أَو مرتين خلالَ فترة السجن التي استمرت 3 سنوات و7 أشهر، لكن رغم ذلك كنا نشعُرُ برعايةٍ إلهية كبيرة جِـدًّا جدًّا”.
في هذا الحِرمان القاسي، تعلَّموا كيف يحولون القليل إلى كثير، وكيف يقتاتون على بقايا الخبز المُدَّخَر في الخَفاء لمواجهة أَيَّـامِ التجويعِ المتعمَّد.
يروي حطبة رحلتَه من سياسة التجويع: “كانت تتغيَّر المراحل… بعض الأيّام يقدمون لنا “كدم”؛ أي قِطَع خبز جافَّة، بكمياتٍ كافية، وتأتي فترة يمنعون فيها عنَّا ذلك ويخفِّضون العدد إلى حَــدٍّ لا يتصور، ولكن كنا نعمل على ادِّخار كمية الخبز بالأيام الوفرة، وحين تأتي فترة الضغوط علينا بسياسة التجويع، ويمنعون عنا الأكل، حينها نعودُ لاستخدام ما ادَّخرناه، فنكسر الخبزَ الجاف ونبَّله بالماء، ونضيف إليه كمية من البسباس، نأكل حتى نشبع في الظلام، حين يكون العساكر نائمين لكي لا يسمعونا”.
عدل مزعوم وتمييز سافر:
لم تغب عن ذهن حطبة المفارقةُ الصارخةُ في تعامُلِ إدارة السجن معهم ومع سجناءَ آخرين، ينتمون لما يسمى بتنظيم “القاعدة”، والذين كانوا يحظَون بامتيَازاتٍ أمريكية مكشوفة.
في هذا السياق يتحدث حطبة: “في تلك الفترة كان في الزنازين المجاورة لنا مساجين كُثُر من تنظيم القاعدة، وكان يأتون لهم زيارات من أول أيامهم، وبشكل مُستمرّ، ويعطون لكل واحد منهم ستةَ آلاف دولار، يعني جنان، إلا نحن ممنوع علينا. من أين هذه الزيارات لهم فقط؟ مدري. وَإذَا ما سألناهم، يقولون فاعل خير”.
ويتابع: “في المقابل، إذَا جاء أهلُنا لزيارتِنا في أَيَّـامِ الأعياد، كانوا يوصلونهم إلى عندِ الباب، ويردّونهم العساكر، ويقولون لهم إنه ممنوع الدخول، ممنوع الزيارات لنا، وَإذَا طرحوا لنا هدية الزيارة، كانت توصل بعض منها فقط، والآخر أين يذهب، لا نعلم؟ وفي بعض الزيارات لا يوصلنا شيء! هذا التمييز الوقح كان يثيرُ في النفوس تساؤلات مريرة عن العدالة المزعومة”.
توجيهات القائد جذوة تنير القلوب:
في قلب هذا الظلام، لم ينطفِئْ نورُ الإيمان في قلوبهم، بل كان يزداد وهجًا بتوجيهات قائدهم الروحي التي كانت تصلهم عبر سجناء الصرخة الجدد.
ويتابع: “طوال فترة ما كنا في السجن، كان السيد حسين رضوان الله عليه يقول لنا، عبر رسائله: هؤلاء إخوتنا، أي السجانين العسكريين، وفهِّموهم أنهم إخواننا، فربما في الغالب ما هم فاهمون؟ يعني ما عندهم معرفة. حتى كان يقول لنا: قولوا لهم داخل السجن، أنتم إخواننا، ولستم أعداء لنا”.
كانت هذه الكلمات بلسمًا لجراحِهم وقوةً لقلوبهم الصابرة.
روحٌ تتسامح مع الجلاد:
لم يستسلموا لليأس، بل استمروا في التعبير عن موقفهم حتى داخل السجن، لتتحول الزنزانة إلى ساحة أُخرى للمقاومة.
ورغم كُـلّ ما عانوه، حمل حطبة ورفاقه في قلوبهم روحًا متسامحة تجاه بعض السجانين، مدركين أن الكثير منهم كانوا مُجَـرّد أدوات تنفذ أوامر عليا.
كما يروي حطبة: “لم نحمل عليهم حقدًا رغم ما فعلوا بنا؛ لأَنَّنا فاهمون وعارفون ومتأكّـدون أن تعذيبهم لنا ناتج عن جهل، وكان فيهم رجال صراحةً، عندهم ضمير، ما هم مستعدين يعذبوننا، كان بعضهم يتهربون، أتذكر منهم واحدًا اسمه نواف، وآخر اسمه عبد القادر، وواحدًا قصيرًا كنا نناديه ‘عمي محمد’، وكان بعضهم مساكين مغررًا بهم، يفكرون أن هؤلاء ناس غلطانين وطبيعي يُعذَّبون”.
سنوات من الحرمان.. وعالم مقطوع الأخبار:
امتدت فترة اعتقالهم لسنوات، قضوها في عزلة شبه تامة عن العالم الخارجي، محرومين حتى من معرفة ما يجري في وطنهم، لكنَّ بصيصًا من الأمل تسلل إليهم ذات ليلة، حين نقل إليهم سجينان مستجدان أخبارًا عن الأحداث التي فاتتهم.
هنا يواصل حطبة: “كانت تمر شهور وأعوام، ونحن مدفونون تحت الأرض، لا نعلم شيئًا، ولا يعطوننا أخبارًا، وَإذَا سألناهم لا يردون علينا، ولكن في ليلة من الليالي، كانت فرصة لنا، حين نزل سجينان إلى عندنا، فتحدثنا معهما وقصَّا لنا أحداث الحربَين الأولى والثانية، فتفاعلنا وصرخنا بالشعار، حتى هززنا السجن، تلك الليلة لم تكن عاديةً بالنسبة لنا”.
الإهمال الطبي ينهش الأجساد:
لم تقتصر المعاناة على الظروف القاسية والحرمان، والتجويع والتعذيب، بل امتدت لتشمل الإهمال الطبي، حَيثُ كان المرض يفتك بأجسادهم دون علاج حقيقي.
في السياق، يقول حطبة: “من ضمن العناء أن تمر فترة طويلة جِـدًّا ونحن نعاني من أمراض معينة، ولم يُقدَّم لنا أي دواء، وَإذَا ما طلبنا يعطوننا مسكِّنات بدائية لا صلةَ لها بنوع المرض. أتذكر أن هناك ثلاثةً من الزملاء أُصيبوا بمرض السُّل، وكثيرٌ من السجناء حصل فيهم الالتهاب الرئوي، وأنا شخصيًّا أعاني إلى الآن من الالتهاب الرئوي. لم نحصل على التشخيص السليم والعلاج المناسب، ولم يسمح لنا بالخروج لنتعالج ونعود”.
ثلاث سنوات من القرب إلى الله:
رغم كُـلّ هذا العذاب، يختتم حطبة شهادته بنظرة متفائلة، مُشيرًا إلى أن فترة السجن، رغم قسوتها، قرَّبتهم من الله وعزَّزت إيمانَهم. حفظ هو ورفاقه فيها القرآن الكريم، ويؤكّـد أن خروجَهم من السجن لم يكن نهايةَ المطاف، بل بدايةٌ لمرحلة جديدة من الوعي والبصيرة والقوة الإيمانية.
ويشرح: “عندما تمُرُّ ثلاثُ سنوات وأنت قريبٌ من الله، تنام وتقوم من النوم وأنت تحس أنك قريب من الله، وخلالَ فترة السجن، أكثر السجناء حفظوا القرآن بفضل الله، فكيف تكون بعد ما تخرج من السجن وكنت عايشًا مع الله؟”.
ما بعد السجن:
ويَتذكّر: “عندما خرجنا قبل الحرب الرابعة، حصل تغيُّر كبير في واقع المجاهدين، في واقعهم الإيماني والوعي والبصيرة، ومن عادات السجن أنه يؤثِّرُ على نفسية الإنسان سلبًا، لكن السجناء الذين سُجنوا بسبب الصرخة بالعكس”.
قصة صلاح حطبة ليست مُجَـرّد سرد لمعاناة خلف القضبان، بل هي شهادة حيّة على قوة الروح الإيمانية التي تستمدُّ عزيمتَها من عقيدة “معرفة الله” و”الثقة بالله” وصدق التجارة مع الله، في وجه القمع والظلام والحرمان. تجلّت صور من الصمود والتسامح والأمل، لتترك بصمة مؤثرة في تاريخ النضال؛ مِن أجلِ الحق والحرية.
بعد سنوات، خرج صلاح بجسد منهك، لكن روحه كالجبال. الجامع الكبير لا يزال يُردّد صدى صرخته للعلن، دون أية اعتقالات، والعالم ينظر إلى شعار الصرخة، وصبر المردّدين الأوائل لعباراته “الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لـ(إسرائيل)، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام” وسطَّروا لليمن ملحمةً لن تُمحى، وللعالم نموذجًا فريدًا في المعنى الحقيقي للحرية، ومقاومة قوى الاستكبار العالمي.