الخبر وما وراء الخبر

مشاهدُ من ذاكرة الحرب..!

11

بقلم / عبدالقوي السباعي

استيقظ الناسُ على أصواتِ الطائرات الحربية التابعة للنظام العفاشي اليزيدي، وعلى هدير المدافع الثقيلة وجنازير الدبابات، وأزيز الرصاص المنبعث من كُـلّ اتّجاه وبمختلف الأنواع والأعيرة، فكانت تلك الأصوات المثقلةُ بالحقد والضغائن تشوّه وجهَ الصباح في إشراقته الأولى.

هُنا في مران إحدى عزل مديرية حيدان محافظة صعدة، طائراتٌ تُحلِّقُ في سماء المنطقة ترصُدُ الأهداف، وتحدّد آلياتها الاحترافية سجلات الضحايا على قائمة الانتظار، محركاتها النفّاذة تخترقُ حاجزَ الصمت، ينسف جدار الصوت على المسامع.. طائراتٌ تحوم في الأجواء وكأنها شفراتٌ حادة تقتطع السماء الزجاجية، تُحيل صفاء زرقتها إلى سواد.. تبدأ الأنفاس بالانقباض، تشتعل الأفواه بالتسبيح والاستغفار، تتحَرّك الرؤوس في المتارس والخنادق، التي كانت عبارة عن حُفرٍ بسيطة لا ترقى بأن تصمُدَ أمام رمحٍ في حروب القرون الوسطى، غير أنها كانت عامرةً بالإيمان الراسخ، الذي لا يخالطهُ ريب.

طائراتُ المعتدين تُغيرُ حيناً وأُخَـــرُ تسبحُ جيئةً وذهاباً، تأتي بغتةً، تتسلل كموت الفجأة، ترمي بحمولاتها المختلفة هُنا وهُناك، على تلك القرى النائمة بأمان بأحضان هاتيك الجبال الشامخة الشماء.. تستهدف المساجدَ والمدارس.

هُنا أغارت إحداها على مدرسة الإمام الهادي لتسوِّيَ المبنى بالأرض، وهُناك وقف أحدُ طلابها الصغار يرى كيف تطايَر كرسيهُ الخشبي في الهواء بعد أن استقر مقلوباً على التراب وكأنَّهُ قشةٌ عَبِثَ بها هواءٌ غَضُوبٌ.. لتعاود القصفَ على أسطح المنازل والمحلات.. على المزارع ومصادر المياه.. في الطرقات.. على السيارات.. على كُـلّ هدفٍ متحَرّك، إنسان، حيوان، حتى الأشجار عبثت بها يدٌ خُرافيةٌ جاءت من اللا مكان.. المدفعية الثقيلة والصاروخية تُمشِّطُ الأماكن، وتنقُشُ الجبالَ بدوائرَ من نارٍ وغبار.. جثثٌ تسقط، وأرواحٌ تعرُجُ إلى السماء.. أشلاء تتطاير.. الشظايا تتناثر في الأرجاء، بعضُها كرأس عودِ الكبريت وثانية متوسطة كإبريق الشاي، وأُخرى بحجم الرحى، دماءٌ ودخان، أجساد تتمزق، وجثثٌ تتفحم.. ما عاد باستطاعة الناظر التمييز أيها للشباب أَو الكبار، أيها للأطفال الصغار، أيها للذكور وأيها للإناث، دموعٌ تحجرت في عيون الأحياء، بعد أن عجزت عن لُغة البكاء، وهي تبحَثُ مذهولةً عن ملجأٍ قريب، بعد فظاعة ما ألمَّ بها من فواجع الزمان، وظلم وجبروت السلطان، وكأنها مشاهدُ تَتْرَى من أهوال يوم القيامة.

انتهى اليومُ الأولُ بتناهِي صراخ الرُّضَّع الجوعى، ونحيب الثكالى، وآهات الجرحى، ونشيج المكلومين.. إلى مسامع المعتدين، لينتهيَ فصلٌ دمويٌّ حاشدٌ بالحزن والألم بالبؤس والقهر، المقابل بالبشاعة والضعة من فبل المعتدين.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com